في صناعة الوهم.. “براندز” الأدب

تتشكل الذائقة الثقافية لدى القارئ العربي، أو لدى القارئ بشكل عام، من خلال محاور عدة أحدها مجموعة الرموز الأدبية اللامعة والمكرسة، التي يشعر بأنه ينبغي عليه أن يكون على اطلاع على أعمالها الأدبية، أو على أسمائها على الأقل، وهي التي يُتفق بأنها الأبرز والأهم على الساحة الثقافية، فثمة قامات شعريّة تنحني لها وأمامها القصائد، بإجماع من سبق من النقاد والقراء، ومن هو حاضر الآن، ومن سيجيء، كذلك الأمر في الرواية، وفي الأجناس الأدبية والفلسفية كافة، فالأسماء المعروفة ثقافيًا وأدبيًا تعد علامة، أو تصنف بالمصطلح الغربي السائد “براند”.
فيما مضى، وبعيدًا عن أهمية الشاعر، أو الكاتب، وجودة ما يقدمه من أعمال أدبية وثقافية، وبعيدًا أيضًا عن التوجهات السياسية للرافع وللمرفوع، كان لدور النشر وللصحافة وللمؤسسات الثقافية دور فاعل في صنع الـ”براند”، وتوجيه القارئ الذي لا يقل دوره عن دور تلك المؤسسات في منح هذه الأسماء العلامة التي تؤهلها للانتشار والتكريس والشهرة، فقد كانت الشراكة الضمنية بين هذين الطرفين هي التي تؤسس لبروز أسماء بعينها، والاتفاق على أهميتها.
اختلفت المعادلة في السنوات الأخيرة، ولم يعد يُتفق كثيرًا حول أسماء تصلح لأن تكون علامة في الوسط الثقافي، بعد أن اختلفت المعايير لدى الكاتب والقارئ، من حيث المصداقية والتميز والإدهاش من جهة الكاتب، ومن حيث الثقة والدهشة والشغف من جهة القارئ، وهذا يعود لأسباب عديدة أهمها سهولة الوصول إلى المحتوى، وفيض المنصات المجانية بالكلام، فكيف يتم العمل على توجيه القارئ إلى المساهمة في صنع الشخصية “البراند” في زمن رخصت فيه الكتابة، وأصبحت منتجًا يتم تداوله في بورصة الثقافة الرقمية، وأصبح تسويق هذا المنتج يعتمد على توفر ثمن نشره لا على جودته ومحتواه، ففي الجيل الذي استطاعت فيه بعض الشخصيات الثقافية صناعة اسم تاريخيّ كانت دور النشر هي التي تلاحق الكاتب، تتبناه وتمنحه بدائل مادية وتسويقية مقابل العمل الأدبيّ، لتعزز من منزلته الثقافية والأدبية، وتمنحه فرصة أن يكون “علامة”، أو “براند”.
أما في الوقت الحالي، ولاستبدال الدور المؤسساتي بالتجاري لدور النشر، ولانفجار منصات التواصل الاجتماعيّ بالكتاب والشعراء، ومواقع التسويق وشهادات التقدير والدروع المجانية، وغيرها مما تتم صناعته للاستهلاك السريع، والإهلاك المريع للمحتوى، جيدًا كان أم رديئًا، فقد أصبح طموح الكاتب، أو الشاعر، هو أن يصبح “ترند” عوضًا عن “براند”، والفرق بين المصطلحين هو أن الأول عبارة عن خبطة سريعة ومباغتة تطفو على وجه الأحداث لمدة زمنية قصيرة وتختفي بعدها، فيما الثاني يعني بذل جهد كبير لبناء الاسم وتلميعه والاشتغال عليه من جهات عدة، ليصبح “ماركة” مسجلة تحفظ لها مكانًا في التاريخ والذاكرة.
المثير في الأمر، وفي الساحة الثقافية تحديدًا، ولكي يتمكن الكاتب، أو الشاعر، من تحقيق طموحه بأن يصبح “ترند”، ينبغي عليه أن يتسلق على أكتاف الأسماء الـ”براند”، أو أن يكون على اطلاع على أعمالهم على الأقل.
خلال كتابتي لهذا المقال، قرأت منشورًا للروائي السوري هوشنك أوسي يتحدث فيه عن الظاهرة الثقافية السلبية التي عززتها وسائل التواصل الاجتماعي، عبر صناعة الوهم لدى محدودي الموهبة، وجعلهم يقدمون أنفسهم على أنهم أدباء ومثقفون، ويحصل هذا من خلال سعي المذكورين لبناء علاقات مع المشاهير والمكرسين القلّة من المعاصرين ممن يحسبون على الـ”براندز”، وليس الـ”ترندز”. ما قفز إلى ذهني هو كيف، وفيما يعترض القارئ على عملية استغبائه وتوجيهه لقراءة عمل بعينه عن طريق توظيف أسماء لها تاريخها وسمعتها في الساحة الثقافية، يقوم بالفعل نفسه عن طريق التسلق على أكتاف تلك الأسماء طمعًا في الشهرة، وما الذي يدفع تلك الأسماء للتنازل عن مبادئها ومنازلها الرفيعة للتسويق لأعمال لا ترقى لأن يُهدر فيها الورق!
ثمة فرق شاسع بين تشجيع المواهب الجديدة والمبدعين الجدد، وبين صناعة الوهم لدى محدودي الموهبة والمتسلقين، لكن هذا الفرق يكاد أن يتلاشى حين تصبح بعض الأسماء اللامعة تحت وصاية دور النشر، التي تملك القرار لتلميع اسم بعينه تبعًا لأهداف لوجستية وشخصية غالبًا، فقد ساهم كتّاب وروائيون ذوو أسماء لامعة في عمليات الترويج لكتّاب جدد عن طريق المشاركة بمداخلات حول أعمالهم الأدبية، بمساحة ظاهرة على الأغلفة الخلفية من الكتب، أو في الصفحات الأولى منها، وهذه تعدّ من الطرق الذكية لجلب اهتمام القراء لأجل الثقة العمياء في تلك الأسماء التي لا لبس حول مصداقيتها ، فلن يغامر أديب معروف باسمه لأجل عمل لا يستحق.
كانت طريقة التسويق هذه من أنجح الطرق وأصعبها لتقديم الكتّاب الجدد والإشارة إلى جودة المحتوى، والإيعاز باقتناء الكتاب وقراءته، لكن الأمر تحول الآن إلى خدعة لا تنطلي على غالبية القراء، بعد تحوّل دور النشر إلى شركات تجارية تبرع في فنون التسويق، وأهمها توظيف أقلام بعينها لتقديم الأعمال الأدبية التي تقوم بنشرها، إلى درجة أن بعض دور النشر أصبحت تعتمد اسمًا أدبيًا مكرسًا ومعروفًا واحدًا للأغلفة الخلفية للأعمال الأدبية، ليصبح النقد مأجورًا، والأدب منوطًا بتوصيات تجرّد القارئ من حقه في الحكم، أو الرأي المحايد.
توسعت مدارك القارئ من خلال العديد من القراءات لأعمال أدبية موصى بها، بعضها لا ترقى لقيمة الوقت الضائع في قراءتها، وتشكّلت أمامه وجهتان أسوأهما العزوف عن القراءة، وثانيهما سقوط تلك الرموز الأدبية المكرسة من منزلتها الرفيعة في وعيه، وهذان الخياران ليسا في صالح الأدب، ولا الأدباء، في طبيعة الحال.
يعيدني هذا إلى قصة استخدام الـ”براند” التي تمنح المنتج ببصمة صغيرة وبلا معنى أن يتضاعف سعره عشرات الأضعاف لمجرد دمغه بعلامة “ماركة” يبرع القائمون عليها بجعلها فارقة، كعلامة التمساح لماركة لاكوست العالمية، التي ترفع سعر الـ”تي شيرت” الذي لا يختلف عن غيره إلا بتلك العلامة إلى عشرات الأضعاف، كذلك في عالم الساعات والأزياء والأثاث، حيث أن المستهلك، ولدى حرصه على اقتناء قطعة ملابس مثلًا من ماركة معينة، لا يدفع ثمن تلك القطعة فحسب، بل ثمن احتياجاته، مثل الاحترام والتقدير والثقة بالنفس، وهذا كلام مبني على دراسات حول الفوائد الاجتماعية للعلامات التجارية، لكن استخدام هذا الأسلوب التجاريّ في الساحة الثقافية هو عملية نسف لمعايير الذائقة والجودة، واستغلال لثقة القارئ المؤمن بمصداقية المؤسسة.
بعيدًا عن دور النشر، ودورها الفاعل في انحدار الذائقة، وفقدان الثقة بجودة ما يروج له من محتوى، برزت في السنوات الأخيرة أيضًا ظاهرة الترويج عن طريق الفيسبوك، والمواقع الإلكترونية، كأن تُكتب قراءات عدة حول عمل أدبي بعينه، تدفع القراء للهرولة لقراءة ذلك العمل، ليصدموا بركاكة اللغة والمحتوى. وللمفارقة، فهذه القراءات النقدية تدفع القارئ للعودة إلى البحث عن أعمال الكاتب المعروف الذي روّج للعمل، ليكتشفوا بأن أعماله أردأ من الأعمال التي يكتب عنها، وهذا ما يدفع القارئ إلى إعادة النظر بتلك الأسماء اللامعة، والبحث عن أسباب لمعانها في سوق تمتلئ بنجوم لا تُعرف أسباب نجوميتها،، وليكتشف أيضًا بأن ليس كل ما يروج له صالح للقراءة بالضرورة، وبأن الأساليب الحديثة لتسويق الكاتب والعمل تفتقر إلى المصداقية والنزاهة، وهذا ما يحمّل القارئ مسؤولية الاجتهاد، والبحث، من دون العودة إلى مرجع، أو توصية للقراءة.

«ضفة ثالثة»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى