الاستعباد الرقمي

من المفارقات العجيبة أن إنسان هذا العصر الذي اكتسب حريته الجسدية والفكرية بعد معارك ضارية دامت أجيالا، بات يرضى بأن يرهن حريته برضاه لقوى جديدة تفرض عليه سلطانها بوسائل مبتكرة، ويقبل أن يعيش في ما يشبه العبودية الطوعية بعبارة إتيان دو لا بويسي. تلك الوسائل التي طالما حلم بعض الطّغاة أمثال بونابرت وستالين وماو تسي تونغ وتشاوشيسكو بامتلاكها لإخضاع رعاياهم، وتخيل جورج أورويل جانبا منها في روايته “1984”، تحققت على أرض الواقع بفضل عمالقة النت، غافا (غوغل وأبل وفيسبوك وأمازون)، حيث صار وكلاء المحادثة الذكية الجديدة من نوع “مساعد غوغل” أشبه بجواسيس حقيقيين، يقتحمون بيوتنا بغير استئذان، ونقبل بوجودهم طوعا كما يقبل المرء نير استعباده.
تلك الشركات الرقمية الكبرى تفرض علينا شكلا من أشكال المقايضة: مجانية بعض الخدمات مقابل بياناتنا الشخصية، وتحاصرنا بإعلانات إشهارية مستهدفة، تحدّد فيها أسعار مشترياتنا على المقاس، بناء على الآثار التي نتركها على الشبكة، ما يجعل لتلك الأنظمة نفوذا مستجدّا يساهم في استعبادنا ليس بغلّنا بالأصفاد ورمينا في الزنازين، وإنما بطريقة ناعمة تقوم على الإقناع والخداع. فالنصوص والصور والأصوات المتدفقة بفيض لا ينتهي، والتي تؤثر على حياتنا العاطفية والشخصية والمهنية، يقع التصرف فيها بتقنيات الذكاء الاصطناعي دون علمنا. والمعلوم أن لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي غالبا ما تبنى وفق عدد هائل من المعطيات الإحصائية، ويكفي أن يشوب تلك المعطيات خلل أو نقص كي يتفشى العيب في اللوغاريتم بشكل دائم. من ذلك مثلا أن أنظمة التعرف على الوجه الأميركية أثبتت جدواها في صنف “الرجل الأبيض” أكثر من سواها.
نتج عن ذلك كله تطور في الوضع البشري، جعل النظر في العواقب السياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية لتكنولوجيات الإخبار والاتصال أمرًا حتميًّا بل وعاجلا لا ينتظر الإرجاء، لاسيما بعد التحولات الأخيرة، كتعميم التعرف على الوجه في الصين؛ ونية إيلون ماسك تخزين المعلومات في دماغنا من خلال إنشاء غرسات، وكان قد أنشأ عام 2017 شركة “نورالينك” بهدف خلق اتصال مباشر بين الدماغ والكمبيوتر؛ ورغبة مارك زوكربيرغ المعلنة في استخدام “الدماغ والحاسوب” لقراءة رغبات زبائنه، الذين يوافقون على ارتداء خوذته، قراءة مباشرة.
فكيف نتصرف في مواجهة التحولات الرقمية التي تؤثر على حياتنا وحرياتنا بعد أن صار الفضاء الإلكتروني فضاء عامّا، وحوّر الوضع البشري بجعله مرقمنا باطّراد؟ هل توجد طريقة لوضع حدّ لتأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، وتحكّم الشركات العملاقة في بياناتنا الشخصية؟
في كتاب “عبوديات افتراضية”، يقدّم لنا جان غابريال غاناسيا المفكر والباحث المتخصص في الذكاء الاصطناعي بوصلة رقمية لتوجيهنا في الحياة، سواء أكانت متصلة أم غير متصلة بالإنترنت، وتحذيرنا من مخاطر لا تتمثل بالضرورة في هيمنة الآلات على الإنسان، لأنه يستبعد أن تستولي الآلات على السلطة، وإن كان لا ينفي أن تحل محلّه شيئا فشيئا في مواقع كثيرة بفضل إمكاناتها التي ما انفكت تتطور؛ وإنما هو يحذرنا من أشكال السيطرة الأخرى، مثل مختلف أوجه الهيمنة الرقمية، وجمع البيانات التي تساهم في تحديد السمات والاستهداف والتوصيات، وكل ما يجعل تصنيف الأفراد ممكنًا. فمن وراء الأجهزة التقنية، تبدو الآلية الاجتماعية في أيدي جهات فاعلة ذات نفوذ تقوض السلطات السيادية.
يتساءل المؤلف: أما زلنا على قيد الحياة نحن الذين يعيشون على الإنترنت؟ بالغوص في صحف التاريخ والمراجع الأسطورية، يخبرنا أننا لم نعد على قيد الحياة بالطريقة نفسها، إذ أعيد تشكيل الصداقة والثقة والسمعة والعمل بالاستناد إلى الروابط الافتراضية، ويكشف لنا عن عملية إخضاع، لا بل عن عبودية طوعية، ولا يرى أن الخلاص يأتي من لجان الإيثيقا التي تسعى دون جدوى لفرض قواعد تقوم على التقاليد الأخلاقية الحيوية وعلى الحقوق الأساسية، رغم أنه سبق أن ترأس لجنة الإيثيقا بالمركز الوطني للبحوث العلمية بباريس.
يُثري المؤلف عرضه بالتطورات التاريخية والفلسفية والاجتماعية ذات الصلة بمفاهيم مثل الخصوصية والصداقة والمشاركة والرقابة والثقة والسمعة والإنصاف والكرامة الإنسانية والشفافية والعبودية، فيستحضر لفيفا من الكتّاب أمثال غوته، لويس كارول، أوجين سو، زولا، بروست، بول فاليري، أندري جيد، بروطون، بورخس، نتالي ساروت، كونديرا، أمبرتو إيكو، وعدد من المفكرين أمثال أرسطو، مونتاني، باسكال، روسو، كانط، نيتشه، ماركس، هيجل، أرندت، ريكور، ليفيناس، سارتر… ليستخلص من كل ذلك أن “العالم الرقمي يوفر لنا إمكانات عديدة، وفي الوقت نفسه نشعر إزاءه بأننا عبيد نوعا ما، فنحن موثَقون بأزمّة وأعنّة، بيد أننا لسنا مرغمين عليها، ولو وعينا حقّا هذا الواقع، فسوف يكون بوسعنا حينئذ أن نحاول التخلص منه”.
ولسائل أن يسأل: كيف يمكن للإنسان أن يفقد حريته في عالم، هو العالم الرقمي، تبدو فيه الحرية بلا حدود؟
يتحدث جان غابريال غاناسيا عن محركات البحث في الشبكات الاجتماعية، تلك التي لا غنى عنها في العالم الرقمي والتي يبدو تأثيرها علينا غير ملموس. تلك الهياكل المعلوماتية تتمتع بنفوذ لا يني يزداد ويعظم، ولا تمرّ المعلومة التي تصل إلينا إلا عبرها، أي بعد إخضاعها لعملية ترشيح. وإذا كانت المعلومات كلها مناسبة لسِمات الفرد، فإن ذلك الفرد سوف ينظر إلى العالم ويتصوره من خلال زاوية محددة، دون أن يملك وسيلة لمعرفة ذلك، فضلا عن تقلص فضاء النقاش والجدل، لأننا في عالم نملك فيه حرية المعرفة والوصول إلى المعلومة لا محالة، ولكن نواجه في الوقت نفسه كومًا من المقترحات التي تربك قراءتنا المخصوصة للعالم. وذلك هو الخطر الأول، أما الخطر الثاني، فهو ما قد ينجم من عواقب على الأنظمة السياسية، حتى في البلدان المتقدمة، حيث يمكن أن تصبح السياسة عملية ماركيتينع، حين تستعمل نفس وسائل الدعاية الإشهارية في المجال السياسي. وقد تقودنا إلى دكتاتوريات من نوع جديد؛ فإذا كانت الدكتاتورية التقليدية تتلخص في استيلاء شخص على السلطة لفائدته، فإن النتيجة تكاد تكون هي نفسها حين تحوز شركات كبرى نفوذا واسعا، دون أن تكون خاضعة لأيّ قانون، من أيّ جهة.
يقول غاناسيا “ثمة مخاطر استعباد لا جدال فيها. وخوفي أن يحتل الفاعلون الكبار مكانة أهمّ. ولذلك ينبغي أن نتساءل: ما هي الطرق التي يمكن أن نستردّ بواسطتها الممتلكات المفقودة؟ لأن السيادة أمر جوهري. رمزيا، الشعب هو الذي يحكم عبر عدد من المؤسسات، ولكن هذا معطَّل اليوم. لأن الشركات العملاقة مستقلة سياسيا، فلا أحد يصوت لفائدة غوغل أو فيسبوك، ولا أحد يملك القدرة على التحكم فيها”.
عبر غربلة النصوص الإيثيقية المألوفة، يكشف جان غابرييل غاناسيا عن حدودها، ذلك أن المبادئ التي تم الاستشهاد بها، أيّا ما تكن قيمتها، والآراء التي قدمتها اللجان التنظيمية لم تأت في الغالب سوى بتوصيات عبثية تتركنا عاجزين عن مواجهة العالم الذي يتبدى للعيان؛ والأسوأ من ذلك، أن تلك اللجان غالبًا ما تردد مخاوف عفا عليها الزمن، في حين أنها تتهرب من المخاطر الواضحة. ومن ثم فالكاتب يدعونا إلى عدم الاعتماد على المذاهب الإيثقية التقليدية، أو الإصغاء إلى مبادئها.
فهل ثمة بديل؟
للإجابة عن ذلك السؤال، يستعمل الكاتب بوصلة ذات اتجاهات أربع رسم عليها خارطة عن حيواتنا في الشبكة والعبوديات التي تؤدي إليها. في شمالها “المتّصل” (Online)، وفي جنوبها “غير المتصل” (Offline)، وفي شرقها “في الحياة” (Onlife) فيما جعل غربها لمن هو خارج الحياة (Offlife) وقد ربط بالموافقة بلا حدود على الحياة في الشبكة. فما هي هذا الحياة التي نحبس فيها وقت عقولنا المتاح، ونقوم بتحميل الوعي، ونحلم بأننا بشر محوَّرون بفعل التكنولوجيا، ونغدو كلنا سوائل؟ صفحة صفحة، يقتفي المؤلف نقاط بوصلته الأربع لتناول مبادئ العدل والشفافية وإثارة مسألة “اللاعبودية” التي لا تزال في رأيه قابلة للتحقق، حيث يرسم سبلا عملية ممكنة لتجنب الوقوع في حبال الشبكة، أو النفاذ منها إلى عالم يكون فيها المرء حرّا تماما، غير خاضع لغير مشيئته.
تلك “الحياة على الشبكة مع دليل الاستعمال” تقود القارئ إلى تجاويف العالم الرقمي، مع التمسك ببعض المبادئ الأساسية المستوحاة من ألبير كامو، أيام كان صحافيا بجريدة “المساء الجمهوري” (Soir républicain)، حيث دعا في سبتمبر 1939 إلى أربع سبل لمواجهة فوضى الحرب والحفاظ على الكرامة في ظل الاستعباد: “التبصّر، الرفض، السخرية، والإصرار”. تبصر أمام رهانات السلطة، رفض نقل الأخبار الزائفة، التوسل بالسخرية كسلاح ضد البديهيات الخاطئة، الإصرار على المضي بالقناعة حتى أقصاها. إذا كان تحديث غاناسيا للتطور التقني لعبوديتنا الافتراضية يرتاب من المواقف التبسيطية التي تدافع عنها لجان الأخلاقيات في الشركات الخاصة، فإنه لا ينسى ربط قضية التحرر الرقمي بإطار سياسي وأخلاقي أكثر عمومية وإنصافًا ودقة وفعالية.

مجلة «الجديد»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى