جوائز الثقافة والأدب.. أين الخلل؟

تعيش الأوساط الثقافية العربية كل عام حالة من الجدل تزامنًا مع الإعلان عن الجوائز الكبرى، وبخاصة جوائز البوكر العربية، وساويرس الثقافية، ونجيب محفوظ، وراشد بن حمد الشرقي، وجوائز الدولة في المجلس الأعلى للثقافة المصري (التشجيعية، والتفوق، والتقديرية، والنيل)، وغيرها من الجوائز العربية.
وتتنوع الآراء بعد الإعلان عن الجوائز بين مشكك في قدرة لجان التحكيم، وموجه لأصابع الاتهام بالمحاصصة، وطاعن في قيمة العمل الفائز، ومقارن مع الأعمال غير الفائزة (باعتبارها أكثر أحقية)، ورافض لطريقة إدارة الجوائز، ومتهم للإعلام والسوشيال ميديا وتأثيرهما على موقف التحكيم، وهكذا.

عدد المشاركات في جائزة كتارا

وكل ذلك يحدث وسيحدث في الدورات القادمة، وربما يعود السبب الأول في ذلك إلى عدم وضوح المقاييس المعيارية التي يمكن الاحتكام إليها، وهو الأمر الذي يغيب عن الوعي العربي انطلاقًا من فكرة مغلوطة تتصور الإبداع حالة غير قابلة للقياس، أو لوضع معايير وقواعد وأسس يتم الاحتكام إليها.
وترى هذه النظرة أن الإبداع محكوم بالمغايرة للسائد والمألوف دائمًا، وأنه يعتمد في المقام الأول على التجريب (الأدبي والفني) مما يدفعه لمخالفة الأسس الفنية السائدة وابتكار جديدة على الدوام، وبالتالي سيكون من شبه المستحيل أن يتم قياس هذا المنتج بأي قواعد صلبة أو صارمة تنتصر للمعيار على حساب الإبداع الفردي الحر.

يمكن الوقوف على الحدود الدنيا لمتطلبات النوع الأدبي أو الفني اعتمادًا على توفر البنى أو الهياكل الأساسية للنوع (سرد، شعر، سينما، فنون بصرية)

والواقع أن هذا الطرح لم يعد صحيحًا في إجماله، ذلك أن مفاهيم الإبداع والفن والثقافة قد تغيرت عالميًا بفعل مجتمع المعرفة، والذي غدا هو ذاته يحتكم لصيغ علمية ومنهجية ليست على طريقة القواعد العلمية الصارمة، كما يحدث في العلوم التجريبية، ولكنها على طريقة المقاييس الحاكمة للتمييز بين عمل إبداعي أو فني، وعمل آخر مناظر، وهو ما يسمح بإمكانية الوقوف على الحدود الدنيا لمتطلبات النوع الأدبي أو الفني (والذي بدونه سيخرج العمل من النوع تمامًا)، مع الاعتماد على مراعاة توفر البنى أو الهياكل الأساسية للنوع (سرد، شعر، سينما، فنون بصرية)، ثم احتساب الحدود الممكنة لعمليات التجريب ذاتها.
فعلى سبيل المثال: تشهد الحياة الآن تجاوزًا للأشكال الأولية من التحكيم المتمثلة في الاعتماد على الذوق والذائقة فقط (الرأي الشخصي لعضو التحكيم)، من جهة لأن الذوق حكم انطباعي (يمثل مرحلة أولية من مراحل النقد)، ومن جهة لأنه فردي قد يخضع لذائقة أجيال سابقة تفرض نموذجها على أجيال معاصرة لها وعيها المختلف وذوقها الجمالي المختلف.
وإلا، فكيف يحكم ـ مثلاـ من ينتمي ذوقه للشعر العمودي، على شعر ينتمي لقصيدة النثر أو الإبيجرام أو الهايكو؟

الاحتكام إلى مقاييس ومعايير مقننة في نهاية الأمر أفضل كثيرًا من التخلي عن هذه المعايير كلية بدعوى الاعتماد على خبرة المحكمين مهما كانت درجة تخصصهم وخبراتهم

وكيف يحكم من ينتمي وعيه للسرد الكلاسيكي (القصة والرواية والمسرح) على الرواية الجديدة والقصة القصيرة جدًّا والمسرح التجريبي؟
وكيف يحكم من ينتمي وعيه للسينما والفن الكلاسيكي على أعمال تنتمي لما بعد الحداثة؟
وبالإجمال يمكن تلخيص الأزمة في ثقافتنا العربية من خلال التفكير في أبعاد هذه الأسئلة، وإلا: فكيف نحتكم للذوق ولا نحتكم للمعيار؟ كيف نحتكم لآراء بشرية لابد أن تتأثر بالأبعاد الشخصية ولا نحتكم للوثيقة التي لا تعترف بالمشاعر والعواطف اعترافًا مطلقًا كما يحدث في تلك الأحكام الانطباعية؟
سيرى البعض أن الإبداع والآداب والفنون لا يمكن لها أن تخضع للمعايير والمقاييس وأدوات التحكيم المقننة، لأنها تقوم على التجريب والتجديد والتطوير والابتكار والتحديث والإبداع الفردي، وهم محقون تمامًا، لكن ربما لا يكون شائعًا في ثقافتنا العربية أن الإبداع والفنون والآداب غدت الآن على المستوى العالمي تخضع لمقاييس مقننة تحتوي في عناصرها هذه الأبعاد وتراعي حداثة النوع الأدبي، وتحتفي بالتجريب والتجديد والتطوير، وهي بذلك تضمن الخروج من الذاتي الضيق المرتبط بالعواطف والانفعالات الإنسانية إلى الموضوعي الرحب المرتبط بالحيادية وتغليب الأفضل.

من حفل إعلان جائزة نجيب محفوظ

نحن ما زلنا نحتكم في تقييم أبحاثنا العلمية والأدبية والفنية لآراء الأشخاص الذين يحتكمون بدورهم إلى خبرتهم العريضة بمجال التخصص، ولكن ماذا لو قلنا إن مجال التخصص ذاته اتسع ولم يعد في الإمكان أن يحيط به متخصصٌ كائن من كان، بفعل مجتمع المعرفة والتدفق المعرفي اليومي، وإن المنهج الصارم محدد المعالم الذي كانت خطواته معروفة قد انقضت أيامه، وصار العالم يدين إلى فلسفات ضد المنهج أحيانا، وإلى فلسفات المناهج البينية أحيانا أخرى، ناهيك عن الانفتاح الثقافي والتدفق المعلوماتي وتكنولوجيا العلوم والمعارف التي فتحت المشهد على مصراعيه، مرورًا بالانفتاح على الدراسات الثقافية التي تهدم الحدود بين المناهج لتبتكر منهجيتها وأسسها وقواعدها، وصولًا إلى فلسفة السيولة التي تهيمن على كل أشكال الحياة الآن .
ففي السينما مثلًا تدخلت آلاف التفاصيل والعناصر والمدخلات التي لن يستطيع الإلمام بها شخص أو عضو هيئة تحكيم واحد، مهما كان تخصصه (مخرج، سيناريست، منتج، ممثل… إلخ)، وفي الأدب والفن تعددت تيارات المنتج الواحد بما لا يجعل متخصصًا لديه القدرة على الإلمام بكل ما ينتجه الإبداع العالمي، أو بتوجهاته، فما مرجعية الحكم هنا على النص الأدبي أو المنتج الفني؟ هل سنكتفي بآراء الأشخاص، أم سنحتكم إلى ما يفعله العالم من معايير ومقاييس تضمن الجودة والحيادية وسلامة الحكم؟

وكيف يحكم من ينتمي وعيه للسرد الكلاسيكي (القصة والرواية والمسرح) على الرواية الجديدة والقصة القصيرة جدًّا والمسرح التجريبي؟

لعلنا لو بحثنا قليلًا سنجد مراكز تقويم عالمية طورت أدوات تقييم لكل العلوم والفنون والآداب، وخصصت جزءًا منها لحكم الفاحص وذوقه الشخصي المستند على الخبرة (لا يزيد عادة عن 10٪)، وجزءًا لحداثة النوع وما أضافه من تطوير وتجديد وتجريب في النوع الأدبي ذاته، وجزءًا لارتباط النوع بكلاسيكياته، وجزءًا للمنهجية (وليس المنهج)، وجزءًا للحبكة والبناء الفني (الإحكام والاتساق)، وهكذا مما يسمح بالبحث عن هذه العناصر في العمل المراد تحكيمه.
ولعلنا لو اجتهدنا قليلًا في ثقافتنا العربية- ونحن قادرون بلا شك- لاستطعنا إنتاج أدوات تقييم متوافقة مع طبيعة آدابنا وفنوننا وبحثنا العلمي بما يجعلها تنافس عالميًا أيضا بدلًا من هذا التراجع الواضح الذي نراه فيها بسبب سيادة الضعيف على حساب الجيد والأجود؛ لاعتبارات لا تتعلق بالآداب والفنون ذاتها، ولكنها تتعلق في أحيان كثيرة بعدم القناعة الشخصية (الشخصية جدًّا) المحتكمة إلى الرأي الشخصي جدًّا، والذوق الشخصي جدًّا في إصدار الأحكام.
العالم الآن يخضع لمعايير ومقاييس مقننة تضمن الجودة في كل ما ينتجه الإنسان ماديًّا كان أم فكريًّا، وهو ما أوجد شهادات الآيزو مثلا (إحدى المعايير الدولية لقياس جودة المنتج)، وأوجد برمجيات التحليل التي تحول البيانات إلى معلومات، ثم تحولها إلى معرفة، وهو ما يشير لحجم التحول الحادث في الحياة، فبعد أن كانت المعرفة يقتصر إنتاجها على البشر وهم المتحكمون في أدواتها، غدت المعرفة اليوم تنتجها برمجيات وتطبيقات تكنولوجية (مع عدم إنكار دور البشر أو إلغائهم تمامًا).

حفل البوكر

وإن كان الإنتاج الفكري والأدبي والفني لن يقبل هذه الصرامة بشكل كلي في تطبيق المعايير والمقاييس، فليس معنى ذلك التخلي عنها تمامًا كما نفعل في واقعنا، وإن كان العالم جميعه يعاني من الخلل في تطبيق هذه المعايير أحيانًا بحكم تدخل السياسة ورؤوس الأموال وصناعة الميديا في توجيه الأحكام ومحاصصة الجوائز وخلافه، فإن وجود معايير مقننة يقلل من ذلك، وكثيرًا ما يمنعه (كما حدث في نوبل للآداب بحجب الجائزة ثماني مرات آخرها كان في عام 2018).
فعلى الرغم من كل الاعتراضات، فإن الاحتكام إلى مقاييس ومعايير مقننة في نهاية الأمر أفضل كثيرًا من التخلي عن هذه المعايير كلية بدعوى الاعتماد على خبرة المحكمين، مهما كانت درجة تخصصهم وخبراتهم العريضة في مجالاتهم، فغلبة الأصوات عادة تكون للأكثر عددًا والأقوى شخصية وليس لمعيار الجودة؛ لأن المعيار غائب من الأساس.
لقد بلغ الأمر في بعض لجان التحكيم العربية أن تعتمد معيارًا لا يمكن استيعابه حتى الآن، وهو قياس جودة العمل بما نشر عنه من مقالات ودراسات، وهو الأمر الذي أدركه كثيرون من الكتاب والفنانين على وجه الخصوص، واستطاعوا استثماره بطريقة أو بأخرى، فصاروا يتبارون في حشد الإعلام واستكتاب الأقلام لصالح إحداث حراك حول العمل متزامنا مع مراحل التحكيم.. فأين سيمكن التماس معيار الجودة عند القائم بالتحكيم في مثل هذه الحالة، وقد خضع من البداية لسطوة الجهاز الإعلامي وليس للفحص الفني الدقيق؟
وبلغ الأمر في بعض المرات أن تم التراجع عن عمل فائز بسبب تعبير مؤلفه عن رأيه السياسي المعارض للدولة مانحة الجائزة، وهو ما أثار حالة من الجدل في سنوات سابقة قريبة.

تعددت تيارات المنتج الواحد بما لا يجعل متخصصًا لديه القدرة على الإلمام بكل ما ينتجه الإبداع العالمي، أو بتوجهاته، فما مرجعية الحكم هنا على النص الأدبي أو المنتج الفني؟

وبلغ الأمر أن فازت أعمال في جوائز كبرى، ثم تبين أنها كانت مقتبسة من أعمال أخرى، على الرغم من وجود محكمين في اللجنة من الذين تم السطو على مؤلفاتهم في العمل الفائز.
كما تم منح الجائزة لعملٍ؛ لاعتبار انتماء مؤلفه لبلد إفريقي فقير؛ بدعوى تمثيل الجائزة في هذا البلد البعيد، وعند الإعلان تبين أن المؤلف لم يولد في هذا البلد ولم يعش فيه.
أما عن تدخل العداوات الشخصية والصراع بين أبناء الجيل الواحد، فحدث ولا حرج، حيث يتم إزاحة مؤلف فائز؛ لأن بعض أعضاء التحكيم يريد تصفية حساباته الخاصة جدًّا، ولن يعدم حينها وسيلة في تقييمه؛ لأن المعيار غائب، والحكم الشخصي الانطباعي هو المتحكم، والإبداع يمكن تقليبه على الوجهين؛ وجه الرغبة في الإعلاء به باعتبار ما يقدمه جرأة وتجريبًا، ووجه الرغبة في إقصائه باعتبار ما يقدمه خادشًا لحياء المجتمع، أو تخريبًا وليس تجريبًا.
وما دام المعيار غائبًا؛ فسيستمر هذا الجدل، ولن يصل لمستوى المعيارية.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى