طروس إلى مولاي السلطان

تشكل هذه الرواية حلقة من حلقات الإبداع النسوي في منطقة الخليج العربي.. والمبدعة الإماراتية سارة الجروان الكعبي قدمت عام 1992م عددًا من إبداعاتها بدءًا برواية “شجن بنت القدر الحزين” وأتبعتها بمجموعتها القصصية “أيقونة الحلم” ثم “رسائل إلى السلطان”.
في عام 2008م قدمت “طروس إلى مولاي السلطان” الكتاب الأول وقد حمل عنوان “الحدال”، بجانب أعمال أخرى، لعل أبرزها رواية “عذراء وولي وساحر”.. وحصدت من خلالها واحدة من الجوائز الأدبية في الإمارات.

سارة جروان الكعبي

لسنوات طوال.. كان الاعتقاد أن قدرة تاء التأنيث على خوض غمار الكتابة الروائية من الأمور التي تخشاها بنات حواء..!! ولا أدري لماذا غلف هذا الادعاء واقع ومسيرة الفتاة العربية على وجه العموم والخليجية على وجه الخصوص..؟!!
دعونا نذهب إلى عوالم الأدب.. كانت “شهرزاد” صاحبة السبق في سرد الحكايات لمدة ألف ليلة وليلة، للملك شهريار.. و”ألف ليلة وليلة” لم يكن تأثيرها محليًّا عبر خريطة الوطن العربي، بل بشهادة كبار الروائيين في العالم، من هنا فإن حفيدة شهرزاد عبر روايتها “طروس” تعيد للذاكرة تلك الحكايات التي تمزج بين الواقع المعيش، والخرافات، والسحر.. وبناء الدولة الحديثة.

لسنوات طوال.. كان الاعتقاد أن قدرة تاء التأنيث على خوض غمار الكتابة الروائية من الأمور التي تخشاها بنات حواء!

بلا شك فإن “سارة” قد استمدت خيوط هذا العمل من تلك “الحزاوي” ومن حكايات الجدات، واحتفظت من خلال الوعي واللا وعي بالكثير من الأحداث، ومع هذا فإن هذه الشخوص التي تتحرك عبر الممكن والمستحيل ذات ارتباط عضوي بذاكرة “الطفلة حصة”، وعوالمها ذات ارتباط وثيق بما أطلق عليه ذات يوم إمارات ساحل عمان.. أو الساحل المتصالح.. حيث الارتباط الاجتماعي أشد ما يكون وثاقه.. وهذه ميزة خليجية، لذا عبر الكاتب غانم السليطي في أحد أعماله المسرحية “أن الفرد يعتلي متن بعير، ويقطع الصحراء من ظفار إلى الإمارات وقطر، وصولًا إلى ابن عمه في الكويت”. كان هذا قبل الحدود المصطنعة، وكان البحار يردد الهولو واليامال من الكويت مرورًا بالمحرق والزبارة وصولًا مندم دون معوقات.. هنا ابن العم وابن الخال.. وأبناء القبيلة كما تؤكد على هذا في روايتها “سارة الجروان الكعبي”.
عوالم هذه الروائية الغرائبية لا يمكن سردها، أو تلخيصها عبر سطور؛ لأنها رواية تنبع بالحياة، نعم وعبر سبعة عشر طرسًا تأخذنا الحكاية إلى عالمها الغرائبي، هي ابنة الصحراء، وإن ارتمت في أحضان المدينة، فمازال شوقها إلى فضاءات الله وأشجار النخيل والأفلاج، نعم مازالت تحن إلى شجرة “الكنار.. النبك”، وإلى زقزقة العصافير، كل هذا بمعية الشيخ “بن عتيج” هذا النموذج المحرك والمحور، لقائد الجميع من أبناء القبيلة، نموذج عاش في الذاكرة الجمعية، يجتمع فيه كل أساليب القيادة الدينية والدنيوية، وله من المميزات ما ليس لغيره بدءًا بالكرم والشجاعة والمروءة.
والسؤال: لماذا اختارت “سارة” تلك العوالم؟
منذ الصفحات الأولى يأتينا السرد عبر التقديم والإهداء.. “حب الوطن” والنبش في ذاكرة ما كان وما سوف يكون، والتحولات الحياتية والانتقال الزماني والمكاني، ونلاحظ هذا الارتباط عند العديد من أبرز كتابنا في مجال الرواية “حنا مينا وارتباطه بعوالم البحر”، ومحمد شكري الكاتب المغربي وحياة المهمشين، ومن الذين يعيشون في قاع المجتمع، واستحضار الواقع بكل سلبياته، عبر جرأة الاقتحام، أما نجيب محفوظ أعظم كتّاب الرواية العرب فقد رصد حياة المجتمع، وقدم نماذج شكلت عصرًا من الماضي، وإن كانت ظلالها ماثلة للعيان عبر تهميش المرأة، فماذا قدمت “سارة” لنا عبر طروسها؟.

حفيدة شهرزاد عبر روايتها “طروس” تعيد للذاكرة تلك الحكايات التي تمزج بين الواقع المعيش، والخرافات، والسحر.. وبناء الدولة الحديثة

أولًا: أعتقد أن المكان لديها البطل، تترك المكان وتعود إليه مجبرة؛ كي تربط الأحداث وتقدم النماذج، سواء من بيده مقاليد تحريك الأحداث، أو من المهمشين والفاعلين في ذات الوقت مثل “ابن يلوه” وغيره.
ثانيًا: الشخوص التي تحرك الأحداث عبر العديد من الأماكن بين الحدود الجغرافية لدولة الإمارات “الناشئة في تلك الفترة وظهور الشيخ زايد”، وسلطنة عمان والعلاقات الممتدة عبر التاريخ والانتقال القبلي بين البريمي والعين وغيرها من المدن، هذه الشخوص التي تحرك الأحداث وبخاصة “جمعة” عبر العديد من الدوائر، نعم “جمعة” نقطة الارتكاز والمحور الأبرز لاحقًا.

سميرة خاشقجي

ثالثًا: حركة التاريخ عبر القرى التي تحولت إلى مدن، والاستقرار القبلي، هذا الإطار أحدث نقلة نوعية في مصائر الإنسان، سواء من ارتبط بجذوره في المكان، أو انتقل إلى المدن العامرة بالحداثة.
في هذه الرواية التي تمزج الواقع بالمتخيل، والتاريخ بخيال المؤلفة، لوحات تعيد للذاكرة كما أسلفت حكايات “شهرزاد” هنا البشر والسحر والغموض، والساردة تعيد للأذهان حكايات الجدات في فصول الشتاء عبر البحث عن دفء في أحضان الكبار، أو في شهور الصيف والمبيت في العريش أو فوق أسطح المنازل ومغازلة النجوم أو مناوشة القمر.
وأنا أعيش مع أحداث الرواية.. طرحت على ذاتي تساؤلًا.. ما معوقات الرواية في منطقة الخليج العربي؟ سؤال صعب، وأعتقد أن الإجابة تنحصر في الآتي:
1. الدعم المادي والمعنوي؛ ولذا فإن العديد من الأسماء تظهر لتختفي!
2. استغلال النصوص الروائية في الدراما التلفزيونية.
لماذا لم يتم مثلً،ا أقول مثلًا، تقديم هذه الرواية في عمل درامي؛ لنعيد عقارب الزمن إلى الوراء، ومن ثم نقدم هذا النموذج الأبرز في تحقيق الأحلام، وليس هناك مستحيل إذا كان هناك من يملك العزيمة والإرادة، ويعشق ثرى وطنه وأهله وذويه.
هذه الرواية تقدم بالدليل الملموس أن الإبداع لا يقتصر على جنس معين، وأن الفكر مرتبط بحالات خاصة، نعم تأخرنا سنواتٍ، ولا ذنب لنا في هذا الإطار عن مواصلة الركب، ولكن هذا التأخير كان لمصلحة الإبداع أيضًا.
ومن يُعِدْ عقارب الساعة إلى الوراء يكتشفْ أن المبدعة العربية كانت لها بصمة في مجال الرواية، من أمثال زينب فواز “الهوى والوفاء” 1892، ولبيبة هاشم “حسنا الحب” 1898، وعدد آخر من المبدعات عاصرن زمن البدايات.

غادة السمان

كما أن القارئ لا يمكن أن ينسى عددًا من أبرز الكاتبات، ممن أطلقن العديد من الأعمال التي شكلت جسورًا للتواصل مع القارئ، مثل ليلى عسيران، كوليت خوري، غادة السمان، أحلام مستغانمي، وخليجيًّا بجانب سارة الجروان الكعبي، رجاء الصانع، منيرة سوار، جوخة الحارثي، ليلى العثمان، فوزية رشيد، عزيزة الطائي، سعدية مفرح، صبا الحرز، وغيرهن!
والأهم أن واقع الرواية النسوية وبخاصة في الخليج قد اتخذ العديد من المنحيات؛ بدءًا بالتدافع والزخم، وبخاصة بعد ظهور رواية رجاء الصانع “بنات الرياض”، والأسئلة اللغز من المؤلف؟ تلاحق بعض الأسماء، وتهميش عدد من أبرز الأصوات أو غيابهن قسرًا من أمثال “نورة آل سعد، دلال خليفة، شعاع خليفة” وغيرهن من المبدعات المنتميات إلى الحراك الإبداعي النسوي في قطر على سبيل المثال لا الحصر، ولكن نلاحظ ظهور أصوات تبتعد عن الأطروحات القديمة المرتبطة بقضايا المرأة والمجتمع إلى مواضيع أخرى، كما نلاحظ في “طروس” حيث تقدم “سارة الجروان” هنا رواية تمزج الحكاية الشعبية بالتاريخ بالواقع المعيش بالخيال، عبر لوحات يضع القارئ تحت سيطرة السرد، كيف لا، وهنا مفردات مغرقة بالمحلية أولًا واستثمار التاريخ القديم، واستحضار الإطار الفلكلوري عبر القصائد الشعبية والأهازيج، كل هذا مع توظيف ضمير المتكلم سواء مع عتيج أو جمعة.

حركة التاريخ عبر القرى التي تحولت إلى مدن والاستقرار القبلي.. هذا الإطار أحدث نقلة نوعية في مصائر الإنسان

“طروس” حقًّا هي رسائل تبعثها المبدعة إلى الجميع.. كيف كنا؟! وكيف أصبحنا؟! كيف تحرك الميزان الاجتماعي والاقتصادي؟! وكيف أحدث الاتحاد هذا الحراك الحياتي لنا جميعًا؟! وانتشلنا من بؤرة الحاجة إلى نعيم الرفاهية، كيف كانت المصاهرة مرتبطةً بالمصالح والمرأة مغلوبة لا صوت لها، إلى مشاركة في كل شئون الحياة، وهي تقول بأعلى صوت: أنا “سارة الجروان.. النموذج عبر صوتي.. هأنا أقتحم المجال، وأسرد على مسامعكم حكايات قد حدثت، وحكايات من بنات أفكاري، نعم أستحضر الأساطير والتاريخ والاقتصاد والشعر والنثر، نعم أمزج الخيال هنا بالسرد الكلاسيكي، وأهرب بذكاء الأنثى لأعري ما كان من خلال الاتجار ببني جنسي. أنا لا أبحث عن المدارس النقدية الواقعية السحرية، أو الواقعية النقدية، أنا لا أقلد ماركيز ولا كويليو ولا كتّاب أميركا الجنوبية، أنا أغرف من معين لا ينضب، حكايات الناس البسطاء، أنا لا يرتبط السرد عندي فقط بالشكل أو المضمون لكن الشكل والمضمون لحمة واحدة، نعم أمزج ما كان بما سيكون.

أحلام مستغانمي

هذه الكاتبة عبر صرخاتها تؤكد أن المبدعة الخليجية في سباق مع الزمن، هذا الأمر قد ألقى بظلاله على حركة الإبداع لإثبات الذات، نعم إن تاء التأنيث أيضًا إطارٌ تكاملي للفكر والثقافة، نعم كانت الخطوة الأولى مع إرهاصات “سميرة خاشقجي- بنت الجزيرة عبر نص “ودعت آمالي” كان ذلك قبل أكثر من ستة عقود من عمر الزمن، ومهدت الطريق إلى العديد من الأسماء؛ “قماشة العليان، بشرى ناصر، هدى النعيمي، وعشرات الأسماء”.
وأخيرًا: طرس ثامن عشر
شكرًا، يا سارة. عفوًا، “حصة”. نص إشكالي، صور تأخذنا في رحلة حياة، تحلق بنا في ماضٍ جميل، مغلف بالإيثار والحب، وبساطة الحياة، نماذج قد نعرفها، نحتك بها، ونماذج مرت سراعًا، حياة تنبض بما كان.
في لغة شفافة بين طفلين، عفوًا، قلبين نجد هذا الحوار:
عبد الله: الغالية أنا ذاهب للمدرسة، عودي أنت إلى البيت ولن أغيب طويلًا، سأعود مسرعًا إليك، وسآخذك معي إلى الوادي!
تهمس حصة: خفت كثيرًا على هذه المسماة “المدرسة” وتؤكد: وقلت في غضب: المدرسة ومن تكون هي تلك المدرسة؟!
حوار ممتع بين طفلين عبد الله، وحصة، في لغة شفافة تحلق بالقارئ إلى عوالم الحب المرتبط بالبراءة.

القارئ لا يمكن أن ينسى عددًا من أبرز الكاتبات ممن أطلقن العديد من الأعمال التي شكلت جسورًا للتواصل مع القارئ مثل ليلى عسيران، كوليت خوري، غادة السمان

سارة الجروان الكعبي، مبدعة، تملك زمام السيطرة على لغة الضاد، وتملك القدرة على خلق النماذج التي تملك مفاتيح العيش في ذاكرة الإنسان المرتبط بأمواج الخليج، وذلك الذي يتخذ من جبال عمان والإمارات والصحاري سكنًا ومقرًّا، ولأن سارة- حصة- عفوًا، جزء من المكان والزمان، ولأنها قد أسلمت القيادة للقلم والورق والفكر، فهي في كل آن تعيش قلق الإبداع.
سارة: كان بودي أن أقلب صفحات الرسائل أو المكاتيب أو الطروس، ولكن يحتاج الأمر إلى عشرات الصفحات، فعذرًا إذا كان التقصير مني، ومثلك من يعذر أمثالي.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى