من قتل الفتى من شبراخيت؟

رواية الفخاخ والظلال

يمكن تقسيم تاريخ الأدب المصري المكتوب بالإنجليزية إلى مرحلتين، الأولى أبطالها كتاب مصريون عاشوا وتربوا في مصر شكلت الانجليزية جزءًا أساسيًّا من تعليمهم بحكم طبقتهم الاجتماعية، مثل وجيه غالي، سامية سراج الدين، وأهداف سويف وغيرهم. ويحضر الاغتراب بصور مختلف، منبعه الطبقة التي ينتمي لها الكاتب، الاستثناء الوحيد ربما في وجيه غالي الذي تمرد حتى على طبقته.
أما المرحلة الثانية فهم جيل أبناء المصريين المهاجرين، مع بدايات الهجرات المصرية الكبرى خارج مصر منذ السبعينيات حتى الآن. فحسب أرقام الحكومة المصرية الرسمية يبلغ عدد المصريين المقيمين في الخارج عشرة ملايين مصري، منهم في الولايات المتحدة الأميركية مليون شخص حسب تقديرات السفارة المصرية، وربع مليون حسب تقديرات مكتب الإحصاء والتعداد الأميركي. وبغض النظر عن فروق التقديرات، لكن هذه الأمة المليونية التي تعيش في المهجر، أصبحت جزءًا من الهوية المصرية الحديثة، تعيد تشكيل معنى مصر، وتقديم صورتها من خلال منتجاتها الفنية والأدبية، خصوصًا وهي تمتلك من الإمكانيات المادية والعلمية ما يضعها في موضع القوة والقدرة على التمثيل.
من أصوات هذا الجيل الجديد نور نجا، التي تسأل في روايتها “If an Egyptian cannot speak English, who is telling his story؟ “

الفتى من شبراخيت يظهر وكأنه شريك في بطولة الرواية، يحكي لنا عن نشأته في قرية على هوامش الريف المصري، مع جدة تقرر الاستحواذ عليه وتربيته منذ صغره، وتجره لعالمها الخاص

“إذا لم يستطع المصري الحديث بالإنجليزية، فمن سيخبر قصته؟”
بالطبع، يتحدث المصريون المقيمون في الخارج لغات مختلفة، ومثل بطلة الرواية درسوا في أغلى الجامعات، وطبقًا لأرقام الحكومة المصرية يحولون إلى مصر أكثر من 30 مليار دولار سنويًّا تمثل 8% من إجمالي موازنة الحكومة المصرية.
في هذه الرواية تصل الفتاة الأميركية إلى ما تظن أنه وطنها وجذرها، القاهرة في عالم ما بعد 2016. نقرأ بين السطور أنها تغادر أميركا هاربة من حزن لا تفصح لنا عن سببه، تخبرنا “نور نجا” من الفصول الأولى أن الفتاة الأميركية تواظب على حلق شعر رأسها، لكن لا تفصح لنا عن السبب، يظل سؤالًا معلقًا حتى نهاية الرواية.
أما ما نعرفه بوضوح: أنها ابنة لأبوين مصريين مهاجرين، عاشت في نيويورك وتخرجت في جامعة كولومبيا، ووالدها طبيب بعيادة في قلب مانهاتن. هاجر الاثنان ولم ينظرا للخلف لمصر أبدًا، لذا كان قرار زيارة الابنة إلى مصر للمرة الأولى مفاجئًا لهما، ومع ذلك فباتصالات الأم وعبر علاقاتها الاجتماعية في القاهرة، تصل الابنة إلى مصر لتجد شقة فاخرة في واحد من أحياء القاهرة العريقة، ووظيفة مقبولة كمدرسة إنجليزية للكبار في المركز الثقافي البريطاني. تبدأ نور نجا روايتها..
تبدأ “نور نجا” روايتها بوعد بدراما مكثفة، قصة هروب، رحلة عودة إلى الوطن، أسرار تنكشف، لكن ما يجعلك متورطًا في القراءة هو النثر السلس والذي يجبرك على تذوق كل جملة ببطء، والذي يأتي مسبوكًا في قالب سردي بالغ التعقيد والذكاء.
تنقسم رواية نور نجا إلى ثلاثة أجزاء رئيسية؛ في الحركة الأولى، مقطوعات قصيرة كل مقطوعة لا يتجاوز طولها الصفحتين. جميعها أسئلة تبدأ بـإذا / if ، ولها طابع قوطى مثل “IF you don’t have anything nice to say, should your mother be punished?”
“إذا لم يكن لديك شيء لطيف لتقوله، فهل يجب أن تُعاقب أمك؟”
ثم يتناوب الحكي صوتان، صوت الفتاة الأميركية وصوت الفتى من شبراخيت. الفتى من شبراخيت يظهر وكأنه شريك في بطولة الرواية، يحكي لنا عن نشأته في قرية على هوامش الريف المصري، مع جدة تقرر الاستحواذ عليه وتربيته منذ صغره وتجره لعالمها الخاص، تطعمه بيديها وينام بجوارها على الفراش ويستحمان معًا، وحين تموت ترسله إلى القاهرة بكاميرا هدية، ليصل المدينة في لحظة اندلاع ثورة 2011، يجد نفسه جزءًا من جماعة جديدة صهرتها وشكلتها الثورة ورفقة الشوارع والميدان وقنابل الغاز.

الاضطراب وصعوبة التفريق بين الروايات المتعددة للحقائق يصل ذروته في تفاصيل علاقة الحب، فالمشهد الذي يرويه الفتى كأنه مشهد حب، ترويه الفتاة كمشهد عنف

تمنحه الثورة محيطًا اجتماعيًّا جديدًا، ويتحول إلى مصور تتسابق المحطات والوكالات على نشر صوره التي يلتقطها من قلب الميدان وأحداث الاشتباكات، لكن سرعان ما زالت اللحظة، وأتى الانقلاب معلنًا هزيمة الثورة ومعها فقد الفتى من شبراخيت إيمانه بمعنى وجوده، منحته الثورة كل شيء وبهزيمتها خسر كل شيء، حتى الكاميرا لم يعد يصور بها؛ لأنه يرفض التقاط صور لواقع مزيف على حد تعبيره، بعدما عاش عامين يعرِّف نفسه كمصور عالمي، يكسب المال وينفق بلا حساب، يتوقف عن العمل وينتهي المال، ويسكن في جحر من جحور القاهرة، ويقوده الإدمان إلى طريق تدمير الذات.


عند هذه النقطة يمكننا توقع الباقي، الفتاة الأميركية ستلتقي الفتى من شبراخيت، ستنشأ بينهما قصة حب، تنتهى بشكل درامي، فهذه القصة تكررت بصيغ مختلفة خصوصًا في السنوات التي تلت 2011. هي كذلك تيمة مكررة في الأدب المصري المكتوب بالعربية في العقد الأخير، لكن نور تحول هذه القصة البسيطة إلى مشهد مروع لتصادم الطبقات الاجتماعية والهويات السياسية، ينتهي بجريمة مفجعة.

* * *

لكن هل الفتاة الأميركية بلغتها الانجليزية قادرة على رواية حكاية الفتى من شبراخيت؟
تفرض اللغة شرخًا في حياة الفتاة الأميركية المهاجرة لمصر، فعربيتها ركيكة تفضحها وتجعل الجميع يسألها “من أين أنت؟” بل تجعل الكاتبة تمنحها هذا اللقب “الفتاة الأميركية” رغم أصولها المصرية وحياتها في مصر. وحين تقع في حب الفتى من شبراخيت وينتقل للإقامة معها في شقتها الفاخرة، تظل اللغة عائقًا في التواصل.

هذه القصة تكررت بصيغ مختلفة خصوصًا في السنوات التي تلت2011 . هي كذلك تيمة مكررة في الأدب المصري المكتوب بالعربية في العقد الأخير، لكن نور تحول هذه القصة البسيطة إلى مشهد مروع لتصادم الطبقات

الفتى من شبراخيت الذي تربى دائمًا في رعاية جدته، يجلس بجوار الفتاة الأميركية وهي تأكل ويتوقع مثل جدته أن تطعمه في فمه، الفتاة الأميركية النسوية، تجد نفسها في علاقة مع الفتى من شبراخيت تتحول فيها إلى نموذج لامرأة مستلبة، تذهب صباحًا للعمل، بينما يجلس هو في المنزل، وحين تعود تعد الطعام لوحدها في المطبخ، وبعد الأكل تنظف المائدة والمطبخ لوحدها، بينما الفتى من شبراخيت لا يفعل شيئًا سوى مشاهدة فيديوهات على يوتيوب، فبالنسبة له هو الفتى الثوري ابن ثورة يناير، هذا هو الوضع الطبيعي ومنطق الأشياء، بل تندهش الفتاة الأميركية حينما تعرف أنه لا يستطيع طهو بيضتين.
الفتاة الأميركية كذلك تفقد بوصلتها داخل عالم من اللغة العربية ومنظومة شفرات اجتماعية تعجز عن فكها، فينتهي بها الأمر تائهة بين المنظومتين. فذات مرة في مترو نيويورك شاهدت رجلًا يتحرش ويضايق امرأة محجبة، فثارت عليه وهاجمته وعبأت عربة المترو ضده، المشهد تم تصويره ونال شهرة خاطفة Viral على الإنترنت، وتحولت الفتاة الأميركية إلى ناشطة مدافعة عن العدالة وأصبحت جزءًا من مجتمع النشطاء السياسيين الشباب في نيويورك. لكن حين انتقلت إلى مصر، صمتت وهي تشاهد صديقها مالك المطعم العريق، يرفض استقبال فتاتين محجبتين أو السماح لهما بدخول مطعمه، وحين سألت عن السبب، يخبرها أن هذه النوعية من الزبائن غير مرغوب فيها هنا؛ لأنهم قد يشوهون صورة المطعم كمكان لـ”الناس النظيفة”.
“الناس النظيفة” هو المصطلح المصري الذي يستخدم عادة للإشارة إلى الأغنياء، بشرط أن تنعكس صورتهم بشكل واضح على مظهرهم وماركات الملابس التي يرتدونها، فالمظهر هو بوابة الدخول لعالم امتيازات الطبقة البرجوازية المصرية.

تتلاعب نور نجا بالضوء والظلال، مثل الساحر تبسط أمامنا قماشة سوداء، تخفي تفاصيل وتجعلنا نشك فيما تخبرنا فيه، ثم تكشف لنا اللعبة في الفصل الأخير

تبتلع الفتاة الأميركية امتيازاتها الطبقية دون حتى أن تعيها، ولا تفهم سبب ثورة الفتى من شبراخيت حين يكتشف في شقتها وجود سلم مخصص للخدم، حيث تنتمي البناية إلى زمن الملكية حين كانت الطبقية في المجتمع المصري مشرعنة بسلطة نظام الألقاب الملكي ومحمية بقوة السلاح.

* * *

يستمر تناوب الصوتين في الجزء الثاني من الرواية، لكن دون أسئلة تبدأ بـIf. بل بدلًا منها تضع لنا نور عدة هوامش تفصيلية تظن في البداية أنها إرشادات للقارئ غير المصري، كأن تشرح أنواع المانجو المصرية، أو ما هي وجبة الفول؛ تظن أنها شروحات تعريفية، لكن لو كان القارئ مصريًّا كحالي؛ لشعر بعدم الراحة، وأن هناك أخطاء أو تفاصيل غير منضبطة، وحتى بعدما انتهيت من قراءة الرواية لم أستطع تحديد مدى دقة تلك الهوامش، إلى أن توقفت عند هامش تشير فيه لأعمال كاتب نوبي اسمه سيد ضيف، بحثت عن اسمه في كل المراجع، وحين لم أصل إلى نتيجة أرسلت لنور أسألها عنه؛ فقالت إنها من اخترعت الاسم والشخصية مثل عدد من تلك الهوامش.
تنصب نور في الرواية عدة فخاخ، للقارئ المتلصص، الذي يقرأ الأدب بصفته بحثًا اجتماعيًّا. وتستخدم هذه الفخاخ لتكشف لنا طبيعة استيعاب الفتاة الأميركية لحقائق الحياة من حولها في مصر، حيث إنها أيضًا لا تميز بين الحقائق والأكاذيب التي يختلقها الفتى من شبرا خيت إذ يمزج بين الحقائق والأساطير، وهو يشرح لها لماذا يطيل بعض الرجال ظفر خنصرهم.
هذا الاضطراب وصعوبة التفريق بين الروايات المتعددة للحقائق يصل ذروته في تفاصيل علاقة الحب؛ فالمشهد الذي يرويه الفتى من شبراخيت كأنه مشهد حب، ترويه الفتاة الأميركية كمشهد عنف، لا تقول اغتصاب؛ لأنها نفسها أصبحت أسيرة لعلاقة استحواذية، لا تميز فيها بين الحب والإيذاء حتى تتصاعد الاضطرابات بينهما، فتنتهى بلحظة انفلات أعصاب حين يقذفها الفتى من شبراخيت بطاولة قهوة في وجهها.

تفرض اللغة شرخًا في حياة الفتاة الأميركية المهاجرة لمصر، فعربيتها ركيكة تفضحها وتجعل الجميع يسألها “من أين أنت؟ بل تجعل الكاتبة تمنحها هذه اللقب “الفتاة الأميركية ” رغم أصولها المصرية

تصاب الفتاة الأميركية بجروح وكدمات وتفيق من وهم الحب لحقيقة أنها في علاقة مؤذية استغلالية، يختفي الفتى من شبراخيت من حياتها، تشعر في البداية أنها تحررت من أثر تلك العلاقة المؤذية، تعود إلى أمانها الطبقي والثقافي فتقابل أميركيًّا يعيش في القاهرة، يتواعد الاثنان وتصحبه لمنزلها، تلتقي الخطوط الدرامية في النهاية وتتصاعد حتى تنتهى بمقتل الفتى من شبراخيت، أو انتحاره، وهذا لغز على القارئ أن يحله.
* * *
تتلاعب نور نجا بالضوء والظلال، مثل الساحر تبسط أمامنا قماشة سوداء، تخفي تفاصيل وتجعلنا نشك فيما تخبرنا فيه، ثم تكشف لنا اللعبة في الفصل الأخير، حين نرى الفتاة الأميركية وقد عادت إلى أميركا، حيث درسٌ في ورشة للكتابة الإبداعية، تناقش مع زملائها الفصل الأخير من روايتها.
لا نقرأ هذا الفصل، بل نعرف أجزاء من محتواه من تعليقات زملاء الفتاة الأميركية وآرائهم النقدية عن الفصل، ينظرون لها من عدسة منظومة القيم الأميركية المعاصرة، زميلتها تعترض على التعاطف مع الفتى من شبراخيت، ترى أن مثل هذه الكتابات تتعاطف مع الجلاد، وتشرعن العنف ضد النساء، قارئ آخر يسأل عن تفاصيل أكثر تتعلق بمصر، باحثًا عن جوانب مثيرة تداعب تصوراته التخيلية عن مكان بعيد، تجلس الفتاة الأميركية تستمع لتعليقاتهم دون تعليق، كأن نور بعدما شرَّحت بطليّ روايتها في الفصول السابقة، تفاجئ القارئ الإنجليزي بمرآة تعكس أسئلته وما يدور داخله، فقط زميل لها يركز على الجوانب التقنية في العمل وينصحها بحذف الفصل الأخير، وهو ما تفعله حيث لا نقرأ هذا الفصل ولا نجده رغم حديث الجميع عنه، لكن أثر الرواية مثل طعم المانجو المصرية يظل عالقًا طويلًا في الفم.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى