الجسر.. في معاني الوصل والفصل
في البدء كان الجسر علاجًا اخترعه الإنسان؛ لجرح في الأرض شقَّه نهر مندفع، جبيرة فوق كسر تعرضت له اليابسة.
كانت الجسور الأولى بسيطة من الخشب، تفي بالوظيفة العملية في تيسير الحياة وربط الضفتين، ثم دخلت الخامات الأطول عمرًا من الحجر والمعادن على التوالي، ومثلما تطورت عمارة البيوت من مجرد مأوى للإنسان صارت للجسور جمالياتها، إلى حد جعلها مزارات يقصدها الناس للنزهة، سواء كانت في داخل المدن أو خارجها، ثم توسعت وظيفة الجسر في العمران؛ فأصبح يقام للوصل بين جبلين لتيسير مد الطرق، وبين برجين في العمارة الحديثة لمضاعفة مساحاتها، وتوفير مكان للنزهة بين السماء والأرض، كما في برجي بتروناس التوءم في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
صارت الجسور رمزًا للالتئام، لهذا يلجأ إليها العشاق يلتقطون الصور، ويُعلقون في أسوارها أقفال الحب، رمزًا لاتحاد أبدي، والجسور في الوقت ذاته رمز للفصل، وتذكير بالاختلاف.
وقد عرفت الأنهار العربية بعضًا من أجمل القناطر الحجرية والجسور المعدنية، التي صارت من معالم مدن كالقاهرة وبغداد.
من المفارقات الحزينة أن تكتسب المدينة العربية بعضًا من جمالها من جسور زمن الاستعمار، وتفقد معظم هذه المعابر الجميلة في زمن الإهمال الوطني في مصر والاحتراب في سورية، وأن تتكاثر الجسور الوظيفية التي تشق أحشاء المدن، لا لربط ضفتي نهر، بل فوق شوارع انتهكتها الجسور القبيحة كحل سهل لتكدس السكان كما في القاهرة. في كتابه «العمران والسياسة» الصادر حديثًا عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، يعتبر د.مأمون فندي كباري القاهرة إشارة رمزية إلى سياسات القفز فوق المشكلات بدلًا من حلها.
وما كان للجسر أن يبقى في ميدان العمارة، تعاظمت قيمته الرمزية، لأن معنى الاتصال والالتئام الذي يمثله الجسر هو جوهر علم الاجتماع والسياسة، لا مدينة أو مدنية دون جسور بين مواطنيها، ولا سلام بين الأمم دون جسور من اتصالات ومصالح وفنون وصناعات.
هناك العديد من المعاني تتبادر إلى أذهاننا عندما نسمع كلمة «جسر».
في السياسة يتحدثون عن «تجسير الهوة» بمعنى تقريب وجهات النظر، وهناك الدولة الجسر بالمعنى الحضاري طويل الأمد، وبالمعنى السياسي في أية مفاوضات بين متحاربين، وبالمثل هناك المدينة الجسر.
وفي الأدب والفكر لا نعدم النصوص التي قامت وتقوم بدور الجسر بين الأمم مثل ألف ليلة وليلة، ورسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وهناك النصوص الجسر بين شعوب أمة واحدة مثل السير الشعبية كسيرة الظاهر بيبرس والسيرة الهلالية، ولن نعدم المفكر أو المبدع الجسر بين الثقافات.
لا يمكن أن يتسع الملف لكل الجسور التي مدتها الثقافة العربية إلى الغرب، من فلاسفة وعلماء الأمة الأولين، إلى جيل رفاعة الطهطاوي ومحمد خير الدين التونسي، إلى جبران ومجايليه من أمثال طه حسين، أو من جيل تالٍ له مثل أمين معلوف، وعبدالفتاح كيليطو، إلى أحدث جيل عربي يكتب الآن في الغرب بلغات أخرى.
سيبدو في هذا الملف تكرار لذكر رائعة إيفو أندريتش «جسر على نهر درينا» وهذا ليس تكرارًا سهونا عنه، بل استفتاءً على واحدة من أعظم الروايات التي كان الجسر عنوانًا لها.
تكشف رواية أندريتش عن قدرة الإنسان على إقامة الجسور وعلى نسفها في الوقت ذاته، والأهم أنها تكشف عن قدرة الإنسان على أن يكون وحشًا حتى عندما يبني جسرًا بالسخرة والقمع، فيفتح جراحًا في الروح، بينما أراد أن يعالج جرح الأرض!
مقدمة ملف “الجسر”
مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)