الجسور.. في الدلالة والتاريخ

لا ريب أن اللغة العربية من أكثر اللغات منطقية في تكوينها وقواعدها واشتقاق معانيها، والأمر بأغلبه عائد إلى اعتماد تراكيبها على الجذر اللغوي الثلاثي (أو الرباعى) الذي على أساسه تبنى المعاني وتشتق الكلمات المرتبطة بمدلول واحد، هذه القاعدة الاشتقاقية تسمح للغة بالتوسع والتمدد عدديًّا ودلاليًّا من دون أن تفقد ارتباطها بالأساس الدلالي، الذي يصل ما بين الكلمات المشتقة منه كلها، مهما تباعدت معانيها الخاصة عند الاستخدام، وهي أيضًا تسمح للمتكلم بالعربية باستشفاف أصل أي كلمة يقابلها، وبالتالي مجالها الدلالي، إذا كان يعرف جذرها اللغوي الذي يمنحها أساس معناها.

أقرب المفاهيم لغويًّا للجسر، بمعنى القنطرة التي تربط بين نقطتين ويعبر عليها، هي كلمة جسارة، أي الجرأة والإقدام والعزم

هذا ما خطر ببالي عندما بدأت التفكير بالكتابة عن الجسر، خاصة بعد أن حللت في ذهني الجذر اللغوي للكلمة ج-س-ر، ووجدت أن أقرب المفاهيم لغويًّا للجسر، بمعنى القنطرة التي تربط بين نقطتين ويعبر عليها، هي كلمة جسارة، أي الجرأة والإقدام والعزم. ووجدتني أجيل النظر في الارتباط الرائع بين الكلمتين؛ فالعبور من نقطة لأخرى، أو حالة لأخرى وهو ما يحققه الجسر مكانيًّا، أو شعوريًّا يتطلب إقدامًا وجرأة، بل ربما أيضًا بعض التهور عندما يكون العبور صعبًا، أو نقطة الوصول غير معروفة تمامًا، أو المجاز خطيرًا، كأن يكون فوق هوة سحيقة، أو مجرى ماء بعيد الغور، أو رمزيًّا، أو روحيًّا، عندما يكون العبور من برزخ لآخر. هذه هي حالة أغلب الجسور في التاريخ وفي الأسطورة، وهي ما زالت كذلك اليوم مع توسع في الدلالات بتوسع المجالات الإنسانية التي تحتاج لوصل بين مكوناتها؛ فالجسور تصل ما كان مقطوعًا، أو متعارضًا ومختلفًا، وتجتاز ما كان عميقًا، وبناؤها نفسه يتطلب جسارة وحنكة هندسية كما يتطلبه تصميمها، وفي النهاية اجتيازها.

الإسباني سانتياغو كالاتراڤا أشهر مصمم للجسور في العالم

تقليديًّا كانت الجسور تعقد فوق الأنهر التي شكلت الموقع الأساسي لاستيطان الإنسان القديم عند بزوغ فجر الحضارة الإنسانية، قبل ما يتراوح بين ٦٠٠٠ و٩٠٠٠ سنة؛ فالحضارات الأولى كلها نشأت على ضفاف الأنهر: النيل في مصر، والفرات ودجلة في الرافدين، والسند في الهند، والنهر الأصفر في الصين. وكذلك الأمر في المدن الكبرى في العالم، تلك ذات التاريخ القديم كروما وبغداد ودمشق، وتلك الحديثة التي تسيدت حداثتنا وما زالت؛ كباريس ونيويورك ولندن. فالأنهر تؤمن الماء للشرب والزراعة والمجرى للملاحة والدفاع في حالة الغزو، ولكن الأنهر في الآن نفسه تشكل حاجزًا طبيعيًّا يحد من الحركة والتواصل، ومن توسع المدن نفسها والعبور من ضفة لأخرى، من هنا نشأت فكرة الجسر أصلًا؛ لتأمين دوام ازدهار المستوطنات الأولى عبر توسعها، ولوصلها بما يلي النهر الذي أقيمت أساسًا على ضفة من ضفتيه.
لا نعرف الكثير عن الجسور الأولى التي ربما كانت مبنية من مواد هشة، أو قابلة للتحلل، مثل الخشب والبوص والقصب، وهذه حالات مدونة في التاريخ، عندما أقيمت الجسور بواسطة ربط الزوارق ببعضها البعض، ونشر مقدماتها ومؤخراتها لتأمين سطح مستوٍ يمكن العبور عليه، نعرف أن جسورًا من هذا النوع أقيمت في روما في عهد الإمبراطور كركلا (حكم ١٩٨-٢١٧ م)، الذي وصل ضفتي نهر التيبر بجسور قوارب وعقدها على شكل جزر اصطناعية في منتصف النهر، مستهلكًا عددًا كبيرًا من القوارب؛ مما أرهق ميزانية البحرية التي خسرت الكثير من مراكبها في سبيل لهو الإمبراطور، وكذلك أقيم على الأقل جسر قوارب واحد في بغداد العباسية، عندما اعتمدت المدينة التي أنشئت على ضفتي دجلة في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي على العبارات والجسور الخشبية وجسر القوارب الموصولة، ولم تبن أي جسر دائم، وربما كان هناك جسر من القوارب الموصولة في قطائع أحمد بن طولون في مصر، الذي أنشأ عاصمته على النيل عام ٨٧٦ م على نموذج سامراء العاصمة العباسية على دجلة، التي ولد ابن طولون وعاش فيها، قبل أن يصبح واليًا على مصر في منتصف القرن التاسع الميلادي.

لا نعرف الكثير عن الجسور الأولى، التي ربما كانت مبنية من مواد هشة، أو قابلة للتحلل، مثل الخشب والبوص والقصب

كما في كل الأمور الهندسية والمعمارية وخاصة تصميم الطرق، تميز الرومان بهندسة الجسور الدائمة التي أقاموا منها أعدادًا كبيرة على مختلف الأنهر في إمبراطوريتهم. وقد أقيمت غالبية الجسور الرومانية في البداية من الخشب، ثم حل الحجر النحيت مكانه؛ لتأمين متانة وديمومة أفضل، وما زال الكثير من الجسور الرومانية قائمًا بل ومستعملًا اليوم، كما في حالة بعض جسور روما نفسها؛ كجسر سانت-أنجلو، مما يدل على جدارة الهندسة الرومانية، فالجسر الروماني المثالي يقام على عقود حجرية ذات أقواس نصف دائرية من الحجر المثبت بقوالب حديدية ومونة إسمنتية، اشتهر الرومان بها، وتتراوح فتحات هذه الأقواس بين ٣ و٩ أمتار في أقصاها، وطولها يصل أحيانًا إلى أكثر من ٧٠٠ متر؛ كما في حالة وجسر ميريدا في إسبانيا المشهور، وقد أقام الرومان جسورًا على معظم الأنهار في إمبراطوريتهم شرقًا وغربًا، ما عدا نهرين عظيمين اثنين: الفرات في سورية الذي شكل الحدود المتأرجحة بين الرومان وأعدائهم الفرس، والنيل في مصر؛ لاتساعه وصعوبة بناء الجسور عليه، ولكنهم عدا ذلك بنوا جسورًا مهمة على الأنهر الكبرى الأخرى مثل الراين في ألمانيا، والدانوب في النمسا والمجر، شكلت معابر رئيسية في شبكة الطرق الواسعة التي أنشأها الرومان لوصل مختلف أرجاء إمبراطوريتهم الواسعة.
لم يخلف الرومان من اهتم بالطرق والمواصلات والجسور كاهتمامهم، ولو أن الدول الإسلامية شهدت فتراتٍ ازداد فيها الاهتمام بالمواصلات والتجارة وتأمين طرق الحج؛ مما استتبع في أحيان كثيرة بناء طرق وجسور جديدة، أو ترميم وإعادة استعمال الطرق والجسور قبل الإسلامية، هذا ما فعله الأمويون خصوصًا في مركز إمبراطوريتهم في بلاد الشام، حيث اكتشفت علامات طرق عديدة بالعربية على دروب سورية الجنوبية وفلسطين، تعود إلى عهدي عبد الملك بن مروان (٦٨٥-٧٠٥) وابنه الوليد (٧٠٥-٧١٥). وربما رمم الأمويون أيضًا بعضًا من الجسور الرومانية على الأنهر الصغيرة في المنطقة. ولا بد أن العباسيين أيضًا اهتموا بصيانة الطرق في دولتهم المترامية، ولو أننا لا نملك أي معلومات عن جسور أقاموها على هذه الطرقات؛ فدرب زبيدة الشهير الذي يعود إلى عهد هارون الرشيد (٧٨٦-٨٠٨) وينسب إلى زوجته الحصيفة زبيدة، والذي وصل بغداد بالمدينة ومكة، وإن اشتهر بآباره وخاناته المخصصة للحجاج، لم يشهد بناء أي جسر مهم؛ بما أنه لم يقطع أي نهر على طريقه في الصحراء الجرداء من غرب العراق إلى الحجاز. أما الدولة الإسلامية التي اشتهرت ببناء الطرق والجسور بحق، حتى نسب إليها نوع من الجسور المعقودة فهي الدولة السلجوقية، التي امتد سلطانها على غالبية أراضي وسط آسيا وإيران والعراق في القرن الحادي عشر، ثم امتدت إلى سورية والأناضول في نهاية ذلك القرن بعد هزيمتها للبيزنطيين في معركة ملاذكرد الشهيرة (١٠٧١). ولكن غالبية الجسور السلجوقية تعود إلى عهد السلطان علاء الدين كيقباد الأول (١٢١٩-١٢٣٧) الذي حكم سلطنة سلجوقية مختزلة في الأناضول، عرفت تاريخيًّا باسم دولة سلاجقة الروم.

جسر صامويل بيكيت في أيرلندا

وسع كيقباد السلطنة التي ورثها عن آبائه في الأناضول، واهتم بتحصينها وتأمين المواصلات في أرجائها، وأقام لذلك الغرض العديد من الخانات التي ما زالت قائمة اليوم، ومهد الدروب وبنى الجسور على الأنهر، تتميز الجسور السلجوقية، التي بنيت إما من الحجر، أو من الآجُر، بعقودها المدببة التي توازي تشكيل الجسر نفسه المثلثي المقطع؛ حيث تعلو نقطة المنتصف فيه بشكل واضح عن نهايتيه، على عكس جسور العقود نصف-الدائرية التي تكون عادة مستوية؛ مما يسهل حركة العجلات على سطحها، وربما كان اعتماد العقود المدببة ممكنًا؛ لأن المسلمين عمومًا تخلوا عن النقل بالعربات، واعتمدوا عوضًا عن ذلك النقل على ظهور الجمال القادرة على صعود المنحنيات، ولكن السبب يمكن أن يكون إنشائيًّا أيضًا، حيث إن مَيَلان ممري الجسر باتجاه نهايتيه على الأرض يمكن أن ينقل بعضًا من الحمولة من منتصف الجسر إلى قاعدتيه، ويمكن أن يكون هناك سبب جمالي لاختيار العقود المدببة والمقطع المثلثي، حيث إن العقود المدببة كانت سائدة في مختلف نواحي العمارة الإسلامية الوسيطة.

هناك حالات مدونة في التاريخ، لجسور أقيمت بواسطة ربط الزوارق ببعضها البعض ونشر مقدماتها ومؤخراتها؛ لتأمين سطحٍ مستوٍ يمكن العبور عليه

أما في الفترة ما قبل الحديثة، فقد تميزت الجسور التي أقامتها الدولة الصفوية في إيران عن غيرها من جسور العالم الإسلامي، وبخاصة تلك التي أقامها الشاه الأكثر شهرة عباس الأول الصفوي في عاصمته الجديدة أصفهان، في بداية القرن السابع عشر. هنا نجد عدة جسور حجرية معقودة تعود لبداية القرن السابع عشر تعبر من شمال نهر زاينده، حيث امتدت مدينة أصفهان التاريخية إلى جنوبه، حيث أقام الشاه عباس وخلفاؤه العديد من الأرباض الجديدة والقصور والمتنزهات، أهم هذه الجسور وأكثرها ضخامة هما جسر (الله ڤيردي خان) أو جسر (سي أوسه پل)، أو (الثلاثة وثلاثين جسرًا) وهو عدد عقود الجسر الذي أنشأه الله ڤيردي خان قائد الجيش بأمر من شاه عباس بين ١٥٩٩ و١٦٠٢، وجسر خاجو الذي أقامه الشاه عباس الثاني عام ١٦٥٠. كلا الجسرين من الحجر وكلاهما مقام من صفين من العقود المدببة، السفلي منها يشكل دعامات الجسر، والعلوي يؤمن غطاءً للمارين من عربات ومشاة على الطرفين، يتكون كلا الجسرين من مسارين منحنيين إلى الأعلى قليلًا، يلتقيان في منتصف الجسر، حيث أقيم جناح مقوس ومثمن الأطراف استخدم لأغراض عدة، ربما كان أكثرها ملاءمة هو منتزه لتقديم الشاي للعابرين، ومازال الجسران إلى اليوم من متنزهات الأصفهانيين المفضلة، بالإضافة إلى كونهما نقطتي عبور أساسيتين بين شمال وجنوب المدينة.

جسر جيمس جويس

مع دخول الحداثة ومتطلباتها الاقتصادية والمدنية والعسكرية ازدادت وتيرة إقامة الجسور في كل مكان في العالم، بل وظهرت مدارس لتعليم هندسة الجسور، ربما كان أهمها مدرسة الجسور والطرق في پاريس التي أسست عام ١٧٤٤، وتنوعت أشكال الجسور ومواد وطرق إنشائها، وظهرت الجسور الحديدية والبيتونية مسبقة الإجهاد، والجسور المعلقة، ثم الجسور المعاصرة ذات الأبعاد الهائلة والتي تصل أحيانًا ما بين بلدين مختلفين عبر البحر؛ كالجسر المقام بين البحرين والمملكة العربية السعودية، وقد تفوقت الصين على غيرها من الدول مؤخرًا في بناء الجسور العملاقة (كما تفوقت في الكثير من مناحي الإنتاج والمواصلات) حيث إن ستة من أطول عشرة جسور في العالم واقعة في الصين، وظهرت أيضًا أشكال جديدة من تصميم الجسور ذات ملامح مستقبلية وهندسات عجيبة، تعتمد على القدرات الهائلة للحواسيب الجديدة على حساب وإنتاج الأشكال الإهليلجية المعقدة؛ مما سمح للمصممين بإعمال الخيال في تصميم جسور بتشكيلات فنية رائعة. ولعل أشهر مصمم للجسور في العالم اليوم هو المعماري والإنشائي الإسباني سانتياغو كالاتراڤا الذي لم يدع مجالًا لتخيل الأشكال في عقود الجسور إلا وطرقه وأبدع فيه، ولو أنه أبدع بشكل خاص في تصميم الجسور المعلقة من جانب واحد، كما في الجسور الثلاثة التي أنشأها في إشبيلية، أو الجسرين الرائعين في دبلن عاصمة إيرلندا، واللذين سميا على اسمي أهم أديبين إيرلنديين في القرن العشرين: جيمس جويس وصامويل بيكيت.

تقليديًّا كانت الجسور تعقد فوق الأنهر التي شكلت الموقع الأساسي لاستيطان الإنسان القديم عند بزوغ فجر الحضارة الإنسانية قبل ما يتراوح بين ٦٠٠٠ و٩٠٠٠ سنة

يعيدنا جسرا دبلن ذوا الاسمين الأدبيين إلى بداية هذا المقال، ودلالات الجسر اللغوية العربية: العبور والوصل والتواصل والانتقال من حالة إلى أخرى، ولكن أيضًا الجسارة والإقدام واقتحام المجهول، الجسور على هذا الأساس اختراع إنساني رائع ذو وظائف مادية واضحة ومهمة، ودلالات معنوية عميقة ومتعددة، تبقى أهمها في رأيي هي خاصية الجسر في الوصل بين طرفين بينهما عائق، أو اختلاف، أو تناقض. في عالمنا المبني فكريًّا وهوياتيًّا ومعلوماتيًّا (خاصة في الفترة المعاصرة) على مجموعات من الثنائيات، أو المزدوجات المتضادة، يبدو لي أن مفهوم الجسر يشكل واحدًا من أفضل الأدوات المتاحة لتجنب التضاد ووصل الثنائيات في الطبيعة، كما في الفكر والخيال والمعتقد.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى