لعبةُ الحياة والموتِ.. في بناءِ الجسور ونَسْفِها!

– هذا الجسر يجبُ أن يُنسف!
إنّه أمر الثورة الذي فاجأ مهندس الجسور سعيد، بطل روايةِ “الانطباع الأخير” للروائيّ الجزائريّ مالك حداد، وحين يجدُ صعوبةً في تقبّل فكرة تدمير صنيعه يأتيه العزاءُ:
– بإمكانك أن تشيّد غيره فيما بعد..
لن يتكفّل سعيد بنسفِ جسره، ولكنّه سيدل الفاعلين على “مَقاتِله”، على المفاصلِ التي إذا ضُربت يتداعى، ولا ضرورة للتذكير بالرجال الذين قضوا في بنائه، لأنّ الكلمةَ للحربِ.
“ليسيا” أيضًا، جسر يجبُ أن يُنسف، بأمر الجدّة مسعودة وهي تعبر الجسر “خفيفة كفكرة” : لن تتزوّج فرنسيّة أبدًا.. أبدًا.
ليسيا تحبّ، سعيد لكنّها لا تحبّ بلده، لذلك اختارت الذهاب إلى فرنسا قبل أن تصيبها رصاصة طائشة.
يعيشُ البطلُ حالةَ تمزّقٍ بين حبٍّ وجسرٍ، يُريدُ لهما البقاء وما تقتضيه الحربُ من قسوةٍ. وقد يكون الجسر، هنا، حالة سلام غير دائمة، إذا علمنا أنّ أحداث الرواية تدور في مدينة الجسور المعلّقة، قسنطينة، خلال حرب التحرير الجزائريّة.
سيقرأ سعيد خبرَ نسفِ الجسر في الجرائد، تمامًا، كمن يقرأ خبر نعيه، وسيحمل السلاح ويلتحق بالثورة ليخوض الحربَ بقلبٍ مسالم، ولأنّ الحرب لا تُجامل مناهضيها، سيقضي في معركة غير متكافئةٍ دارت بين الصّخور، غير بعيد عن الجسور التي تربط ضفتي المدينة، ليكون مجرّد رقم ناقصٍ في عمليّة طرحٍ كان يُجريها، متذكرًا درس الحساب في المدرسة، وهو يرى رفاقه يسقطون في المعركة الأخيرة التي يقودها شقيقه بوزيد، الذي كان مصمِّمًا على نسف الجسر، بوزيد نقيضه الذي يجدُ التردّدُ سبيلًا إليه، وفي مشهد مأساوي يغطي بوزيد وجه سعيد بالوشاح الذي حاكته أمُّه.
يسوقُ مالك حداد بطل روايته الأولى إلى الموت، بعد أن نسف جسره، وبعد الرواية الرابعة واستقلال الجزائر سيتوقّف عن الكتابة لأنّه لا يُحسن “الغناء بالعربيّة”، لقد انتهى إلى أنّ بناء الجسور مع فرنسا غير ممكن، وهو الذي كتب خلال ثورة التحرير: إن “كل جزائري يحصل على البكالوريا هو فرنسي جديد”، في معرض انتقاده لنظام التعليم الاستعماري القائم على القضاء على الثقافة الجزائرية وغرس الثقافة الفرنسيّة.
واكتفى مالك حداد بعمل قصير في الصّحافة وعمل إداري في وزارة الثقافة، فتح خلال توليه الأبواب لكتّاب العربية، قبل أن يهزمه السرطان وهو، بعدُ، في الواحدة والخمسين.

انتهى مالك حداد إلى أنَّ بناء الجسور مع فرنسا غير ممكن، وهو الذي كتب خلال ثورة التحرير: إن “كل جزائري يحصل على البكالوريا هو فرنسي جديد”

ويشكّل صمته “قطيعة”، سنفهمها فيما بعد، حين تتحوّل اللّغة التي هجرها إلى أداة هيمنة تعيق الاستقلال، وليس مجرّد غنيمة.
لذلك كان لا بدَّ من نسف الجسر، في الواقع كما في الرواية، وهو أمر تكرّر في أعمال فنيّة تشتبك مع التاريخ والواقع، في السينما تحديدًا، حيث تتداعى الجسور، وحيث يصبح تدميرُ جسرٍ بطولةً مولّدة للفخر وتستحقُّ التضحيّة، كما هو الشأن في فيلم “جسر على نهر كواي” لدافيد لين المأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتب الفرنسيِّ بيار بول (شارك بصفته مجنّدًا في القوات الخاصّة في تدمير الجسور لعزل القوات اليابانيّة في الحرب العالميّة الثانيّة).
وتدور وقائع القصّة في معسكر ياباني خلال الحرب الثانيّة، حيث يقوم أسرى من البريطانيين بتشييد جسر، ثم يخطّطون لنسفه لقطع الإمدادات عن اليابانيين، حتى وإن اقتضى ذلك التضحيّة بأنفسهم، حيث يفلحُ القائد وهو يسقطُ ميتًا متأثرًا بإصابة، في كبس الزر المولّد للانفجار، فيتداعى الجسر ويهوى القطار الياباني في النّهر، أمام دهشة آخر الأحياء، ولا بأس أن يصرخ أحدهم في نهاية الفيلم: “هذا جنون.. هذا جنون”!
نعم، إنّه جنون الإنسان في الإبداع وفي تدبير النّهايات، أيضًا، وفي التأرجح بين صناعة الحياة واختلاق أسباب الموت، يرمِّمُ بالهندسة جراح الجغرافيا، بمد الجسور، مثلًا، ويعيد النّظر في المُنجز في الحرب التي تُجيز كلّ أنواع الخراب وتستعير لها أسماء وصفات من معجم البطولة.
لا يبني الغزاة المعابر ليعبروا، فحسب، بل يشيّدونها كي يدوموا ويبرهنوا على رجاحة العدوان، في رسالة لا يفهمها سوى الثائر “المُدمّر”، وقد كشف الخطاب “النيوكولونيالي” أنّ الثقافة واللّغة والعمارة، كانت من أدوات الحرب التي فرضتها القوى الاستعمارية، التي لم تعد تخجل من تمجيد الاحتلال والحديث عن أهدافه الحضاريّة.
هذه اللّعبة ستستمرُّ في الواقع، كما في الفنّ، ما دام الإنسانُ لا يزال يحتكمُ إلى القوة في تدبير شؤونه، غير مستفيد من الحلول التي اقترحتها الحضارات المتعاقبة لإخراجه من “البدائيّة”.
وحتى التكنولوجيا الحديثة التي مدّت الجسور بين البشر، تم استغلالها في تجارة متوحّشة، حوّلت كل شيء إلى سلعة بما في ذلك الإنسان ذاته، الذي قطعت العولمة شرايينه الاجتماعيّة وحوّلته إلى مستهلكٍ أبله، يرفع أرباح الشركات متعدّدة الجنسيات حتى وهو مستلقٍ في بيته، يتسلى، وعوض أن تُساهم في تقريب الأمم ووضع المعارف وأسباب في متناول الشعوب، أحيت نزعات الهيمنة وأشاعت الكراهيّة والعنصريات.
على مرّ الأزمنة اعتبر الجسر كرمز للتقارب والعبور والخير، لكن الاستنجاد بكراريس التحليل النفسي سيضعنا أمام فهم أعمق من أساسات الجسور؛ إذ يقدّم تفسيرًا مذهلًا لأحلام وهلاوس المرضى التي تظهرُ فيها الجسور، ويكشف أنّها مرتبطة بالاضطرابات ذات المنشأ الأوديبي، حيث يرمز الجسر إلى عضو الأب، لكنّه قد يُحيل إلى رغبةٍ سحيقةٍ في العودة إلى جسد الأم، أو إلى الرحلة نحو الموت، على اعتبار أنّ الموت عودةٌ إلى الماء، إلى جسد الأم، كما يقرُّ فرويد.

يقدم التحليل النفسي تفسيرًا مذهلًا، لأحلام وهلاوس المرضى التي تظهرُ فيها الجسور، ويكشف أنّها مرتبطة بالاضطرابات ذات المنشأ الأوديبي

وربما يدفعُ ذلك إلى التفكير في الدوافع والخلفيّات الجنسيّة لبُناةِ الجسور ومدمّريها، فقد يحيلُ فعلُ البناء إلى إبراز الذكورة، التي تتمثّل على الصعيد الجمعيّ في إظهار القوّة والبراعة التي تنشدُ الإعجاب والسعي لفرض السيطرة، ويخفي التدميرُ رغبةً في النيل من المعتدي بتجريده من ذكورته ومنعه من “العبور”، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل العدوان!

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى