الجسر والماء الذي يجري تحته

بين كيليطو وجبران

في مقال قصير نشر منذ بضعة أسابيع (الثقافة الجديدة/ مايو/2022) كتبتُ بضع كلمات احتفاء بكتاب “في جو من الندم الفكري” للكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو (دار المتوسط/ 2020) ولا أظن أن كثيرين يختلفون معي في كون الكاتب المغربي يعد جسرًا ما بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، شأنه شأن كتابٍ كبارٍ كإدوارد سعيد مثلًا، يعيشون بين عالمين، وثقافتين، تبدو إحداهما الأكثر ضعفًا، والأكثر احتياجًا إلى الدعم والمساندة، وإلى إسماع صوتها “الخافت” في عالم تتسيد فيه ثقافات أخرى، لا يختلف الأمر كثيرًا بعد مرور قرن بكامله! وأعني، هنا، منذ أن كتب جبران خليل جبران كتابه ذائع الصيت “النبي” أثناء الحرب العالمية الأولى، ليروي عطش المنهكين من الحرب والباحثين عن ملاذ روحي يساعدهم على تأويل الدمار والعبث!

الفارق كبير بين كاتب القرن الحادي والعشرين وكاتب القرن العشرين، رغم الهدف النبيل ذاته، فكيليطو الذي يكتب بالعربية والفرنسية، “العائش” بين ثقافتين، وعالمين، ليس تمامًا جبران

لكن الفارق كبير بين كاتب القرن الحادي والعشرين وكاتب القرن العشرين، رغم الهدف النبيل ذاته، فكيليطو الذي يكتب بالعربية والفرنسية، “العائش” بين ثقافتين، وعالمين، ليس تمامًا جبران، الذي يكتب بالعربية والإنجليزية، “العائش” بين ثقافتين، وعالمين، والذي وضع الأدب العربي في متناول أيادي الثقافة الغربية، “بطريقته”، فحقق لنفسه، ولثقافته، حضورًا لم يزل مؤثرًا حتى اليوم، في الثقافتين، بالرغم من أنه كتب “النبي” بالإنجليزية، التي ترجمت “بيسر” إلى العربية عبر ترجمتين رئيسيتين، أو بمعنى أدق “تعريبين” كما ورد في الصيغة، التي استخدمها المترجم الأول لأعمال جبران الكاملة بالإنجليزية، ووافق عليها جبران في حياته (الأرشمندريت أنطونيوس بشير، دار صادر، دار بيروت، 1964)، والتي احتفظ بها أعني “تعريب” أيضًا ثروت عكاشة في ترجمته لأعمال جبران عن الإنجليزية (الهيئة المصرية العامة للكتاب ط7-1990). الفارق لافت في نظري بين “التعريب” و”الترجمة”، وهو ما نراه جليًّا في كتب كيليطو المكتوبة بالفرنسية، التي ينص غلافها في طبعاتها العربية على كلمة “ترجمة” (العين والإبرة، والكتابة والتناسخ، مثلًا).

جبران خليل جبران

ربما يرى كثيرون أن هناك فارقًا عصريًّا، ما بين استخدام الكلمتين:” التعريب” و”الترجمة” لكنني أظن، وسأحاول إثبات ظنوني تلك، أنه فارق في “طبيعة “الجسر الذي يقيمه كيليطو، والذي أقامه جبران، من قبله، بين عالمين وثقافتين، وفي هندسة بنائه.
يحدثنا كيليطو عن تحذير أصدقائه من الكتابة بالعربية في كتابه “في جو من الندم الفكري”، وعن تلك اللامبالاة التي لمسها من أكثر من صديق إزاء كتابته بالعربية، قيل له: “جميل أن تدرس المتون التراثية، لكن افعل ذلك بالفرنسية لأن الخلاص بها، أما العربية فاكتب عنها، لكن إياك أن تكتب بها، وإلا ستظل حبيسها، ولن يلتفت إليك أحد خارجها”(في جو…/ ص 73) لكنه لا يلتفت إلى التحذير كثيرًا، إن اللغتين في صميم نسيجه، اللغة الأم/ أو الأب/ العربية، واللغة التي “يكتب بها” أيضًا، “الفرنسية”، لكل لغة منطقها، طريقة تفكيرها، حمولتها، وهو يعي ذلك جيدًا، لذا سيستخدم مترجموه كلمة “ترجمة” في نقل نصوصه إلى العربية، بل إنه، هو نفسه، يقول لنا: “وجدت نفسي في خضم جدال بين اللغات، حرب شرسة، سجال مع الآخر ومع نفسي، طبع مختلف كتاباتي…. واعتقادًا مني أنني سأصحح الأمر أصدرت بعد ذلك كتاب الغائب بالعربية” (نفسه، ص72).

يختلف جسر كيليطو الذي يعي تمامًا كونه جسرًا يصل ما بين بقعتين جغرافيتين وثقافتين، لكنه “يفصل بينهما” عن جسر جبران الذي هو محض انتقال من لغة إلى أخرى على طريقة “الطفو”

ثمة فارق واضح بين جسر كيليطو، وجسر جبران، لا يمكن اختزاله في أن الكاتب المغربي الكبير يصل ما بين ثقافتين: العربية والفرنسية، والكاتب اللبناني يصل ما بين الثقافة العربية والأميركية، أو بمعنى أدق، لا يمكن اختصار الأدوار في محض جسر بين ثقافتين أو بين أنا عربي/ آخر غربي! لا يصلح الاختزال هنا في تبين “هندسة” و”طبيعة ” و”مكابدات” بناء الجسور، أو حتى في مدى “ضرورتها” وحتميتها في عالم يبدو الآن مثل قرية صغيرة تجاوزت فيه التكنولوجيا ووسائل التواصل والترجمة- جيدة كانت أو رديئة- مفهوم الأنا/الآخر، هل هذا الكلام صحيح تمامًا؟ لا أظن، وسأحاول تبرير توجسي من “إكليشيه” القرية الكونية، السابق، وبساطة تداخلاته، متكئة على تجربة جبران خليل جبران بالأساس، مع لمحات من المقارنة بين عصر وعصر، ومحاولة ومحاولة.

جسران متقابلان

مسيرة جبران، التي نعرفها جميعًا، بدأت بكتبه العربية (الموسيقى، عرائس المروج، الأرواح المتمردة، الأجنحة المتكسرة، دمعة وابتسامة، المواكب، العواصف) ثم الإنجليزية (النبي، رمل وزبد، عيسى ابن الإنسان، حديقة النبي، أرباب الأرض) لم يكن العبور من العربية إلى الإنجليزية، (على مستوى الصياغة اللغوية) عبورًا منظمًا كما سردته، فأثناء كتابة كتابه الأخير “المواكب” كان قد شرع في الكتابة بالإنجليزية، لكننا، على أية حال، يمكننا تقسيم كتابته إلى مرحلتين لغويتين، بتداخل ليس جوهريًّا، ويمكن بشيء من الطمأنينة، اعتبار أننا أمام كتابة عربية ، “ثم” إنجليزية.

ماري هاكسل

في المقابل، لا نجد مثل هذا الانتقال في الجسر الذي ينشئه كيليطو، يبدو أننا أمام “تزامن” واضح، ما بين اللغتين، العربية والفرنسية، تزامن يجعل الكتابة بالعربية تحتاج إلى تبرير ما، نقرأ تبرير كيليطو: “… إن الأدب العربي يحتاجني بقدر ما أنا أحتاجه” (ص70)، وهو تبرير يختلف تمامًا عن تبرير جبران لكتابة “النبي”: “اعترف لها: (يقصد ماري هاكسل التي كانت تنقح لغته في الكتاب): “لم يكن عليّ حقيقة أن أكتب بالإنجليزية بأية حال، ولكنني أتحدث كثيرًا جدًّا بالإنجليزية، وكل أصدقائي يكتبون، يكتبون طوال الوقت، إن كل هذا حولي، ولكنني لا أزال أفكر بالعربية.. حينما أكتب بالعربية فالإنجليزية، آه، تكون بعيدة جدًّا، يكون عليَّ أن أمعن التفكير في كيفية تهجي أبسط كلمة”. (جبران خليل جبران/ حياته وعالمه/ تأليف/ جين جبران وخليل جبران/ ت.فاطمة قنديل/ المشروع القومي للترجمة/ عدد 920/ القاهرة/ 2005، ص524).
نحن، إذن، أمام نسقين مغايرين، في الانتقال من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى ثقافة، بحكم تطور الوعي بالعالم، وبوجود الذات المثقفة فيه، أو، والتزامًا بمحور هذا الملف، أمام نمطين من الجسور، وهندستين لهما، جسر كيليطو الذي يعي تمامًا كونه جسرًا يصل ما بين بقعتين جغرافيتين، وثقافتين، لكنه “يفصل بينهما” في الوقت نفسه، وجسر جبران الذي هو محض انتقال من لغة إلى أخرى على طريقة “الطفو”، والرغبة في الانسجام والتوافق مع الثقافة الأميركية، التي يعيش فيها بالفعل، لا نجد هنا ذلك الشعور بالاحتياج إلى تقديم التراث العربي إلى الآخر، بل “بالذات العربية” إليه عبر التماهي مع ذلك الآخر، برأب صدع الغربة، غربة الوطن، وغربة اللغة. لكننا نظلم جبران كثيرًا، إذا اختزلنا هذا الانتقال في محض توافق مهاجر مع مجتمع، صار لا يتكلم “طوال الوقت” إلا بلغته، وأصبح عليه أن يكتب بها، ليحل إشكال اغتراب فردي، ولكي نفهم هذه النقطة سيكون علينا أن نعرف مفهوم جبران نفسه للغة الآخر، التي كتب بها، وهي عنده: “وعاء” لأفكار، لأفكار “كونية”، يقول عن كتابة “النبي” : “إنني لا أحاول أن أكتب شعرًا فيها، إنني أحاول أن أعبر عن أفكار” ( السابق/ ص 523) ونقرأ في ملاحظة لماري هاكسل عن اللغة في “النبي”، حين وصفت أسلوبه: “نوع من الإنجليزية الكونية، البناء الأكثر بساطة “خط صاف” الإنجليزية التي يستخدمها مختارًا أسلوب التوراة” ( نفسه/ص 519) نحن، إذن، لسنا إزاء مسألة التفكير “في” اللغة، وإنما إزاء مرحلتين متعاقبتين: الأفكار ثم صياغتها في لغة، والفارق جلي بين اللغة كموضوع للتفكير واللغة بوصفها محض وعاء لأفكار، وإذا أضفنا إلى هذا التصور مفهوم الأفكار نفسه، يمكننا أن نراها: أفكارًا “كونية” مستقاة من الكتب الدينية، ومشحونة بالحس الكوني المجهد الباحث عن تعزية ومواساة ومعنى لوجوده بعد الحرب العالمية الأولى، أي أننا إزاء كتابة أشبه برسالة دينية، مقصدها الرئيس “الكون” بكامله، ولا يشغلها، في الحقيقة، إقامة جسر بين ثقافتين، أو مد يد العون لثقافة مهمشة، بل إزاء إحساس بالإنسان في العالم، لا يضع مسألة الجسر بين الثقافات، وتجاوز الحدود بين جغرافيتين، في أوليات مشاغله.
لم يكن غريبًا في هذا السياق أن يبدأ جبران كتابة “النبي” عبر مقطوعات قصيرة سماها “أمثولات” ثم أعاد تسميتها بـ”النصائح” ثم: “تطورت بحلول يونيو 1919 لتأخذ شكلها النهائي “النبي” (نفسه/ ص520) ولم يكن غريبًا أيضًا أن يضع الجنود العائدون من الحرب كتاب “النبي” بعد أن أعيد طبعه في “كتيب” في جيوبهم، كأنه كتاب مقدس!

عبد الفتاح كيليطو

ربما يفسر لنا ذلك ما وضعه مترجمًا كتاب “النبي” من كلمة “تعريب” على أعماله الإنجليزية، فبحسهما الدقيق ربما أدركا أنه كتاب عربي صيغ في لغة إنجليزية، في أبسط صورها الكلاسيكية، المشحونة بحمولة دينية وأخلاقية “كونية” وأن نقله من تلك اللغة إلى العربية هو محض إعادة الكتاب إلى بيئته الأصلية، وإلى وطنه، تمامًا كإعادة جثمان جبران، بناء على وصيته، إلى بلدته “بشرى” في شمال لبنان.

ولكل جسر ماء يجري تحته!

يقول جبران لماري هاكسل إذ سألته: ما الذي يثقلك إلى هذا الحد؟ : كوني موجودًا بين عالمين، لو كنت في سوريا فسيضمن شعري الاهتمام برسوماتي.. لو كنت شاعرًا إنجليزيًّا سأضمن لها الاهتمام الإنجليزي، ولكنني بين عالمين، والانتظار ثقيل” (حياته وعالمه/ ص409).
ربما يكون بإمكاني أن أستمر في تلك الفرضية التي بدأت بها استنادًا إلى المقتبس السابق، بأن الوجود بين عالمين لا ينطوي على صراع بين لغتين، وإنما بين وجود ينقسم على نفسه، “هوية ممزقة” إذا جاز التعبير، تطمح إلى تحققها، وربما يظن القارئ أنني أحاول أن أبرر كتابة “النبي” بمحض الرغبة في التحقق داخل مجتمع تعاني تلك الهوية من اغترابها فيه، العكس تمامًا، فمما لا شك فيه أن جبران وضع كل قلبه في هذا الكتاب، “كل قلبه العربي” لا الأميركي، كل “إرثه” الروحي والأسطوري الكامن في وجدانه، كتلبيةٍ لحاجةٍ روحيةٍ عميقةٍ للغرب الجريح نفسه في هذه اللحظة تحديدًا “1919”، ولحاجة نفسه المنقسمة أيضًا، كجواز مرور يتجاوز به هذا الوجود المنقسم، كي يستقر في سنوات حياته الأخيرة!
أهديتُ كتابي المترجم” جبران…حياته وعالمه” الذي استندت عليه في هذا المقال، إلى “ماري هاكسل” صديقة جبران على مدى عقود، كتبتُ: “إلى ماري هاكسل..الهامش..البطل”، لم يكن مجرد انحياز نسوي مني، بقدر ما كان تصحيحًا لتاريخ أظهر فيه ميخائيل نعيمة في كتابه: “جبران: حياته، موته، أدبه، فنه” (مؤسسة نوفل، ط9، بيروت 1981) هاكسل بوصفها تلك المرأة العجوز، التي تحب شابًا (جبران) أصغر منها! ويا له من حكم جائر! فلم يكن لكتاب “النبي” أن يظهر لولا ذلك الماء تحت الجسر، لولا ما يمكن أن أصفه بـ”رتق اللغة”، المتلعثمة التي كتب بها جبران مسودات “أمثولاته”، أو التي اتخذها “وعاء” لأفكاره، ثمة عمل دؤوب وغزل ونسج، نقرأ: “ماري الحبيبة: ……..أرسل إليك شيئًا صغيرًا آخر؛ حكاية رمزية (…) لتقرئيها وتصححي إنجليزيتها حينما يكون لديك الوقت، كما ترين يا ماري أنني أذهب إلى مدرستك أيضًا، وإنني واثق أنني لا أستطيع أن أكتب كلمة إنجليزية واحدة لولاك” “(حياته وعالمه/ص 498) ونقرأ أيضًا: “انعقدت جلسة العمل التالية في 11 مايو، شعرتْ أن الأجزاء الستة التي عملا فيها قد أصبحت الآن كاملة، ولكن كان لديها تحفظات حول لغته في الأجزاء الأخرى”. (نفسه/ص524). تمكنت “المُدرسة” الصارمة من تصحيح الأوراق، بدأب العاشقة، حتى اكتمل الكتاب، صحيح اللغة، وهو ما كان مطلوبًا تمامًا. فلم يكن هدف جبران في كتابه “النبي” أن يغوص في مكامن اللغة الإنجليزية، أو أن يقبض على جمالياتها، كما يفعل كيليطو في كتبه المكتوبة بالفرنسية، لقد كان الطريق مرسومًا منذ البداية، “أفكار” في لغة كونية، ذات حمولة أخلاقية ومنبع ديني، الجزيرة مكان للمصطفى يلقي فيه موعظته، جامعًا بين رسول الإسلام وموعظة الجبل للمسيح، لا مجال هنا لثقافتين، بل نحن نتجاوز الثقافات كلها، نقفز على الهويات المنقسمة، وما تنطوي عليه من تراتب، في كتاب جامع، لا ازدواجية لغوية في هذا السياق، ولا مكابدة في هذا المنحى، لكنها مكابدة إنسانية، وجودية، تليق بالنبوة والأنبياء وحوارييهم: “هذه أيام صعبة بالفعل [ يقصد أيام الحرب العالمية، وأثناء كتابته للنبي] ولكننا نتعلم الكثير جدًّا عن الحياة وعن أنفسنا…… ولكنني كثيرًا ما أشعر بالتعاسة…الآخرون- الملايين والملايين- يعاملون بخشونة شديدة، وإنني واعٍ تمامًا أن هذا الشعور، هذا النوع من التعاسة لا يخلو من “تمجيد الذات”. (نفسه/ ص 514).

لم يكن لكتاب “النبي” أن يظهر لولا ذلك الماء تحت الجسر، لولا ما يمكن أن أصفه بـ”رتق اللغة”، المتلعثمة التي كتب بها جبران الذي قامت به هاكسل

بأية لغة نموت؟!

يتساءل كيليطو في كتابه، مع بورخيس، سؤال من يعيشون أكثر من لغة: “بأية لغة يجب أن أموت”؟ أو “بأية لغة سيفاجئني الموت؟ (في جو…/ص30) لا أعرف هل يظنان- هو وبورخيس- أن الحياة جسر بين عالمين، لكنني أوقن أن جبران كان يراها كذلك، ليس بين عالمين فقط، بل إن الحياة تعيد نفسها وتتكرر وتتناسخ، سنجد هذا التصور، واضحًا، في أكثر من موضع من كتابات جبران العربية المبكرة (رماد الأجيال والنار الخالدة من عرائس المروج مثلًا) بل إنه يستند في أحد نصوصه “نشيد الإنسان” من مجموعته “دمعة وابتسامة” إلى اقتباس من القرآن الكريم “وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون”، وما دامت الكتب دُبجتْ في إيمان جبران بعقيدة تناسخ الأرواح، لا يهمني إثبات ذلك، فجبران الذي قدم نفسه متماهيًا مع “النبي” للعالم، لا أظنه كان منشغلًا بذلك السؤال الذي أرّق بورخيس، وأرّق كيليطو من بعده، بل إن مسألة الموت نفسها لم تشغله بالطريقة نفسها، فالحياة جسر، أو جسور لحيوات أخرى، أيًّا ما كانت، ولأن اللغة محض وعاء لهذه الفكرة، تمامًا كما كانت في كتاب “النبي”، ستكون آخر كلماته قبل موته “بالإنجليزية”، لا العربية؛ نقرأ ما روته صديقته الأميركية باربره يانج: “كانا قد استدعيا طبيبًا وسيأخذانه إلى مستشفى فنسنت في صباح الجمعة، وقفت بجوار الكائن النفيس أقوم بكل ما يمكنني عمله، تحدث وكان يمزح، كان نفسه تمامًا، ينام قليلًا وقبيل أن تصل الإسعاف في الصباح كان هناك تغير مفاجئ قبل أن يهبط إلى أسفل قال- وهو يرى قلقي المروع- “لا تنزعجي، كل شيء على ما يرام”، وكانت تلك آخر كلماته الواعية، لفظ أنفاسه في الحادية عشرة تلك الليلة. (حياته وعالمه/ ص652).

مشروع قراءة

في الإشارات السابقة وضعت خطوطًا تحت إنجاز كاتبين كبيرين: جبران خليل جبران، وعبد الفتاح كيليطو، وسؤالًا عن طبيعة ما قدماه للثقافة العربية، وانصب اهتمامي على كتاب “النبي” وما أحدثه من تأثيرأذاع صيت جبران في العالم بأكمله، والدور المغاير الذي يلعبه كيليطو في الثقافة العربية، أي أنني حاولت رؤية الماضي من خلال الحاضر، عبر هذين الكاتبين، ورؤية السياقات التي اختلفت وتشابكت. وضعت كتاب “النبي” في سياقه الحضاري، لإبراز أهميته في ذلك السياق، وكان كيليطو في لحظته الثقافية المغايرة، مرشدًا، لرؤية ما آل إليه حال الثقافة العربية، وكيف حاول، ولا يزال، انتشالها من غياهب التهميش والتجاهل، سياقات مختلفة، أو مرايا، أتمنى في محاولة لاحقة تعميقها، وتفصيلها، ربما تعيننا على تلمس ما تحتاجه ثقافتنا الراهنة بالفعل، من مثقفين حقيقيين، يعيشون بين عالمين، ويتكلمون بلسانين، ويتأملون بـ”حنو” (هذه الكلمة الجبرانية الأثيرة) ثقافتنا العربية وثقافة الآخر، الذي صار متعددًا، ومغايرًا، وكونيًّا، كذلك.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى