ما تبقّى من “صداقة” يُطل على مقبرة!

في إبريل/ نيسان 2000، تم افتتاح أول جسر في شوارع صنعاء. أُطلق عليه اسم “جسر الصداقة” كرمز لمتانة العلاقة بين اليمن والصين، أو بتعبير لوه شياو وونغ، السفير الصيني لدى اليمن حينها: “رمز لمشاعر الصداقة من الشعب الصيني إلى الشعب اليمني”.
لم تعد سفارة بكين مفتوحة في صنعاء، لكن الواجهة الشرقية للجسر تحتفظ بالاسم المكون من ثلاث كلمات باللغة الصينية، لم تفقد هذه الكلمات لمَعانها الفضِّي ولا تماسكها، كما لو أن الشمس تصقلها في كل شروق وتزيدها ثباتًا، أما الكلمتان العربيتان في الواجهة المقابلة، فتبدوان تكثيفًا، من فعل الصدفة، للوضع الذي آلت إليه البلاد بسبب الحرب؛ طبقة داكنة من الأغبرة وأدخنة العوادم تغطّي الحروف المنحوتة بالخط الكوفي، بينما تقاوم الكلمة الأولى سقوطًا وشيكًا لتلحق بالنُّقَط الأربع لـ”الصداقة”.

موقع جسر الصداقة بصنعاء قبل إنشائه، وفي محور الصورة مبنى البنك المركزي (تصوير: عبدالرحمن الغابري)

تعود العلاقة الرسمية لليمن بالصين إلى أواخر خمسينيات القرن العشرين الماضي، وكان شقّ وتعبيد الطرقات وإنشاء المباني، أبرز ملامح هذه العلاقة؛ عبَّدَ الصينيون طريق صنعاء- الحديدة، وصولًا إلى “باب اليمن”- أكبر الأبواب السبعة التي كانت تنتظم في سور بطول خمسة أميال يحيط المدينة، بعد سقوط نظام الإمامة في 26 سبتمبر/ أيلول 1962، توسّع شقّ الشوارع بصورة متسارعة خارج السور الذي هدمت سلطات الجمهورية الوليدة آنذاك أجزاء كبيرة منه، فعلت ذلك استجابة لحمَّى النموِّ العمراني التي كانت حبيسة السور، لكنها لم تكن استجابة مدروسة بما يكفي لتخطيط عاصمة حديثة، حملت الشوارع وتقاطعاتها أسماء شهداء ثورة سبتمبر، ومنهم علي عبدالمغني ومحمد محمود الزبيري؛ امتد شارع علي عبدالمغني باتجاه الجنوب، من “ميدان التحرير” إلى دوّار حمل اسم “جولة الشِّراعي”، حيث ينتهي امتداده متقاطعًا مع شارع الزبيري، هذا التقاطع القريب من “ميدان التحرير” و”باب اليمن”، شكّل نقطة الوسط لجسر الصداقة، لكن كيف كانت الحركة المرورية قبل إنشائه؟

ظلّ الإمام يحيى حميد الدين (1918-1948) يرفض ركوب السيارة خلال سنوات حكمه الأولى، كونها “اختراعًا مسيحيًّا”.. من يعرف إذا ما كان فكَّر بذلك أثناء اغتياله داخل سيارته!

قبل أربعين سنة من إنشاء الجسر، كانت حركة التجارة من وإلى مدينة صنعاء تتركز في “باب اليمن” و”ميدان شرارة” الذي تحول اسمه إلى “ميدان التحرير” بعد الثورة، كلا الباب والميدان يقعان في الجهة الجنوبية للمدينة المكونة من قسمين: شرقي وهو أصل المدينة، وغربي أنشأه العثمانيون خلال استعمارهم الأول لليمن (1536-1635)، القسمان كانا يلتقيان عند “باب خُزَيمَة” المفضي إلى مقبرة تحمل نفس الاسم ويمتدّ منها لسان شبه مثلث تُرك فيما يبدو كمساحة احتياطية لموتى الأجيال القادمة، كانت “خزيمة” المقبرة الرئيسية للمدينة، وبعد العام 1962، بدأ توسّع المدينة بهدم سورها المواجه للمقبرة، تولّى تخطيط ميدان التحرير مهندسون مصريون ضمن الدعم المصري لثورة اليمن، وبعد مغادرتهم استمرت المباني والشوارع الجديدة في اكتساح المساحات الخالية خلف السور المهدّم، وصولًا إلى قبور الأسلاف.
آنذاك كانت السيارات في المدينة قليلة، بحيث يمكن عدّها بأصابع اليدين، نادرًا ما كان المواطنون العاديون يملكون سيارات أو درّاجات نارية، بالرغم من أن أول سيارة دخلت صنعاء في 1912، وأول دراجة نارية في 1929، كانت سيارة الوالي العثماني محمود نديم باشا، وبعد خروج العثمانيين من شمال اليمن، ظلّ الإمام يحيى حميد الدين (1918-1948)، يرفض ركوب السيارة خلال سنوات حكمه الأولى، كونها “اختراعًا مسيحيًّا”؛ من يعرف إذا ما كان فكّر بذلك أثناء اغتياله داخل سيارته! وبسبب سياسة العزلة التي كان أئمة اليمن يفضلون ممارستها بصرامة لتسهيل سيطرتهم على الشعب، ظلّ امتلاك السيارة في عهد ابنه الإمام أحمد، حكرًا على الطبقة الحاكمة وكبار الأثرياء، لكن سياج العزلة بدأ بالتلاشي حين تزامنت غزارة إنتاج العالم الصناعي وتطوره مع خروج المارد من القمقم، تزايد عدد السيارات والشاحنات وكل أنواع وسائل النقل الحديث، على إيقاع سياسة الانفتاح التي اتسع نطاقها على الاستيراد منذ مطلع الثمانينيات، ومع انتصاف عقد التسعينيات، الذي شهد عامه الأول الوحدة بين شطري اليمن، تحوّلت “جولة الشراعي” إلى مضيق تزايدت فيه أوقات الذروة المرورية لدرجة الاختناق.

جولة الشراعي وإلى يمينها مقرة خزيمة وشارع نادي الشرطة قبل توسعته (تصوير: عبدالرحمن الغابري)

نظرًا لأهمية المكان في الحركة المرورية للعاصمة وموقعه بالقرب أو على طريق مرافق حيوية، أنشأ المهندسون الصينيون نفقًا تحت “جسر الصداقة”، يمرّ النفق متصالبًا مع الجسر، ويشكّل الامتداد قبل الأخير لشارع الزبيري قبل الوصول إلى “باب اليمن” شرقًا، ويبدأ الجسر من مسافة قريبة من قلب “ميدان التحرير”، ممتدًّا جنوبًا بطول أربعمائة متر وعرض خمسة عشر مترًا. المئة متر الأولى منه تطلّ على البنك المركزي اليمني، وآخر مئة متر تطلّ على مقبرة “خزيمة” الشهيرة. مساحته تبدو مساوية لمساحة النفق، لكن سقف الأخير لا يتجاوز طوله الثلاثين مترًا، وهي المساحة التي يقف عليها جنود شرطة السير لضبط السائقين المخالفين.
بالرغم من تخفيف الجسر والنفق للاختناقات المرورية في المكان، ظلَّ جنود شرطة السير يجهدون في صدّ وضبط المخالفين بالمرور من تحت الجسر نحو شارع الزبيري أو نحو “باب اليمن”، كان المرور من تحت الجسر متاحًا فقط لانعطاف السيارات القادمة من “ميدان التحرير”- شارع علي عبدالمغني إلى نفس الشارع، وبالمثل، تلك القادمة من شارع نادي الشرطة وإليه، الدخول إلى شارع الزبيري متاحٌ فقط من اتجاه “ميدان التحرير”، وإلى “باب اليمن” من اتجاه شارع نادي الشرطة.

يوفِّر جسر الصداقة اليمنية الصينية ملاذًا آمنًا لعدد من أولئك الذين فقدوا مساكنهم، وظائفهم، عائلاتهم، أو حتى عقولهم بسبب الحرب وقسوة الحياة

عندما كان لا يزال الجسر الوحيد في شوارع صنعاء، كان اهتمام شرطة المرور بتنظيم حركة السير فيه عاليًا، ولا يضاهيه سوى رغبة السائقين وأطفالهم بعبور النفق أو امتطاء الجسر، تضاءلت تلك الرغبة بالاعتياد وإنشاء جسور وأنفاق أخرى في المدينة، لكن عدد السيارات استمر بالتصاعد، لم يتوقف استيراد السيارات حتى في سنوات الحرب الدائرة منذ العام 2014، وبحسب إحصائية لشرطة المرور، وصل عددها في صنعاء العاصمة سنة 2021، خمسمائة ألف سيارة، لم يكن استيراد السيارات فقط ما ضاعف عددها، فهناك موجات النزوح التي تدفقت إلى المدينة، سيما خلال السنوات الأربع الأخيرة، هكذا أصبح كلٌّ من الجسر والنفق مصدرين للاختناقات المرورية، ليس فوق الأول أو داخل الثاني، بل في الأماكن التي يؤدِّيان إليها.

بداية جسر الصداقة من جهة ميدان التحرير
استخدامات أخرى للجسر

في الجزء الجنوبي أسفل “جسر الصداقة”، خُصصت مساحة لركن السيارات من الجانبين، بالكاد تكفي لعشر سيارات، لكنها يمكن أن تتسع لأكثر من ذلك وفق مبدأ “الوَسَع في القلوب”. أما في الجزء الشمالي، فوجد أفراد الحماية الأمنية الخارجية للبنك المركزي مكانًا ملائمًا لدورياتهم، كما نصب الجنود المرابطون أمام بوابة البنك خيمتين لحفظ تموينهم المعيشي، وللنوم في الأوقات التي تتخلل فترات المناوبة، وكما في أي مدينة تعجّ بالمشرّدين، يوفّر جسر الصداقة اليمنية الصينية ملاذًا آمنًا لعدد من أولئك الذين فقدوا مساكنهم، وظائفهم، عائلاتهم، أو حتى عقولهم بسبب الحرب وقسوة الحياة. وإذا تجوّلت تحت الجسر قليلًا، ستجد موقفًا صغيرًا وغير ثابت يستحدثه كل يوم سائقو درّاجات نارية جريئون، أملًا في الحصول على راكب يبحث عن وصول سريع، ستجد باعة متجوّلين؛ مناديل ورقية، قناني الماء البارد، مساوِك، صور سياسيين وقادة حرب، خاصة في المناسبات الملائمة لذلك، ستجد عمودًا دائريًّا سميكًا في الوسط، حيث يمكنك الاتكاء واقفًا وملاحظة رجال المرور يتحركون بخطوات يائسة من انضباط السائقين، حركة السير صارت متاحة تحت الجسر في كل الاتجاهات، حياة تمضي بإيقاع مرتبك، بصداقات خافتة، وملامح الوجوه تتفاوت بين الشرود ونسيان الاتجاهات، التعب، الغضب، أو كل ذلك ممزوجًا بهموم تخنق الروح وتدفعها نحو “خُزيمة”.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى