\”الذي سرق نجمة\” قصة جديدة للكاتبة سناء الشعلان

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

كلّ شيء في حياته صغير ومحدود و قصير وقريب،ولكنّه على الرّغم من ذلك مولع حدّ التّخليط والمغالاة بل والكذب أحياناً بأن يصوّر كلّ شيء على أنّه كبير وبعيد وممكن ناسياً أو متناسياً حقيقة حياته وظروفه ومعطياته،كثيراً ما يلومه النّاس في هذا العيب الملازم له،وما أكثر ما ورّطه في مشاكل وأزمات وتعقيدات،ولكنّه ما بالى بكلّ هذا ما دام هذا العيب يورثه رضا عارم يشبه الشّعور بالشّبع الكامل من أكل حبّة أرز لا أكثر،هو شعور غريب،ولكنّه ممكن.

ومن حسن حظّه أن المرأة التي يعشقها تتعاطى بقبول ورضا مع عيبه الخطير،وهو المبالغة حدّ الكذب،فضلاً عن قبولها بجسده النّحيل الصّغير المتشكّل بلا مبالاة واضحة،حتى ليوحي منظره بأنّه قد خُلق من بقايا لحم مقّدد كان من المتوقّع أن يُخلق منه قط صغير،لا إنساناً بشريّاً كاملاً،هذا إلى جانب تجاهلها لقضية نسبه الوضيع الممزق بين أب مشكوك في نسبه وأم تجاهل نسبها خير من تذكّره،امرأته النّادرة تقبل به بكلّ علّاته،وتفتخر بحبّها له،وتتباهي في كلّ مكان بأنّه أفضل إسكافيّ في المعمورة قاطبة،وتتيه فخراً على النّساء بأنّ رجلها الإسكافيّ الكذّاب يعشقها حدّ العبادة،وهي تعلم علم اليقين أنّ هذه المعلومة هي المعلومة الوحيدة التي يذكرها الرّجل الذي تحبّه بعيداً عن موهبته الدّاء المبالغة والكذب.

هو كذلك يغضّ الطّرف عن عمش قدميها،وحول عينها اليسرى التي تتجه بانحراف وئيد نحو أرنبة أنفها،ويغضّ الطّرف كذلك عن ثرثرتها التي لا تعرف حدّاً أو ضبطاً أو ذوقاً،ويصفها بالمتحدّثة البليغة،في حين يصفها كلّ من يعرفها بالثرثارة مفشية الأسرار،ولا ينفك يأتمنها على أسراره فتفشيها،وتوقعه في المزيد من المتاعب،ولا يزال يبالغ ويكذب،وتصدّقه،وتأخذ كلامه على محمل الجدّ،وتنقله إلى كلّ من تعرف وتصدف وتقابل بداعٍ وبغير داع،فتزيد الطّين بلّة،وتدفعه مرّة تلو أخرى إلى إرباكات تتلوها إرباكات أُخر،ثم هو لا يتوب عن البوح لها بمبالغاته وأكاذيبه،وهي لا تتوب عن الثرثرة؛فهما متصالحان مع بعضهما على الرّغم من عيوبهما،سعيدان بحالهما لا يريان فيه ما يفوق طاقتهما،أو يعكر صفو حياتهما،أو يستدعيهما إلى خطة عاجلة لتغيير عادتيهما القاتلتين.

وما قال لها في يوم أحبّك إلاّ كان صادقاً يعني ما يقول بكلّ صدق على خلاف عادته،وما سمعت كلمته هذه إلاّ أشاعتها في كلّ ناحية شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً بكلّ الأجواء المكانيّة والزّمانيّة والنّفسيّة لإحداثيات قوله إيّاها لها،متناسيّة أنّها أشاعت هذا الخبر عشرات المرّات على الملأ،حتى ما عاد أحدٌ إلاّ ويعلم بحبّه لها،وبحبّها له.

لكنّه في هذه الليّلة المقمرة المرصّعة بالنّجمات كان مولّهاً بها بشكل خارق للمعهود،لقد صنع لها حذاءٍ جلديّاً متقن الصّنع،وكأنّ عفريتاً سرقه من قصور الجان،كذلك أحضر لها طاقة أنيقة من ورود الأقحوان التي تفضّلها على كل الورود،وبات يغمرها بكلّ كلمات العشق والاشتهاء والتودّد،ويشمّها كيفما اتفق،ويترصّد كلّ حركة تقوم بها بجوع لأدق تفاصيلها وحركاتها وكلماتها،ثم جذبها إليه لتصبّ في حضنه،وقال لها:” أتعرفين يا جميلتي،لقد قمتُ لأجلك بمغامرة جريئة؛لقد سرقت نجمة من السّماء،وخبّأتها في مغارة في الجبل لأقدّمها هدية لك في ليلة عرسنا! انظري هناك في السّماء”.

– ” أين؟” سألته وهي تجول بعينيها في قبّة السّماء المنيرة الفضفاضة؟

– “هناك” .وأشار إلى أقصى يمين نظريهما حيث تنحصر النّجوم بشكل واضح عن مكان صغير في عباءة السّماء المطرّزة بالآلئ النّجوم،ثم قال لها:” في ذلك الفراغ كانت تقطن تلك النّجمة التي سرقتها لأجلك،كانت الأكبر والأجمل،ولذلك اخترتها لك من دون غيرها،كان أمر انتزاعها من مكانها أمراً ليس بالهيّن أو السّريع،ولكنّني تكبّدت كلّ ذلك العناء وحدي لأجل أن أهبك هديّة عرس تليق بك،وتكون استثناءاً تفخرين به إلى أبد الآبدين،وتورّثينه لسلالة أبنائنا الموعودين إلى يوم الدّين.

_ ” أريد أن أراها الليلة” .قالت حبيبته بفرح غامر،ورجاء باد.

-” هذا مستحيل الآن.لن تريها إلاّ ليلة عرسك،من الشؤم أن ترى العروس هدية زفافها قبل ليلة انكشافها على عريسها”.قال بثقة وصرامة لا تليق بكذبه المكشوف.

نظر في عينيها،فرأى فيهما فرحاً وفخراً أحول يميل بوضوح إلى أرنبة أنفها،امتلأ صدره بالزّهو؛لأنّه سرق نجمة من السّماء،وسيهديها للمرأة التي يحبّها في ليلة عرسهما،وكاد يصدّق أنّ النّجمة تقبع هناك في الجبال دفينة مخبّأة في مغارة يعرف وحده الدّرب إليها،أمّا هي فصدّقت الأمر تماماً،وأقنعت نفسها بأنّ هديّته النّجمة في انتظارها،وألفت نفسها تعدّ اللحظات كي يأتي الصّباح،وتشيع الخبر في كلّ مكان،جازمة بأنّ هذا الخبر هو الأهم فيما نشرت وأذاعت طوال عمرها،فهي أوّل امرأة يهديها حبيبها المغامر الشّجاع الفارس نجمة مسروقة من السّماء!

بطيئاً جاء الصّباح،ولكن سريعاً أشاعت خبر نجمتها الهديّة المسروقة من السّماء،طرافة هذه الكذبة وطريقة سردها الشائقة التي قدّمتها بها لجمهورها من محبّي ثرثرتها جعلت الكذبة تغدو طرفة المدينة ليومين،تناقلها الكثيرون في أجواء من السّخرية والضّحك والاستخفاف،ولكنّه ظلّ فخوراً بهذه السّرقة المزعومة،وهي ظلّت متباهية بصلافة بهذه الهديّة النّادرة الخرافيّة.

أمّا عيون كبير الجند فكانت ترصد ردود فعل النّاس تجاه هذه الكذبة العجيبة،وتعدّ التّقارير لسيدهم حول أصدائها في كلّ مكان بعد أن أبدى اهتماماً غير مبرّر تجاه كذبة سخيفة ممجوجة كهذه الكذبة.وفي غضون أيام قليلة كانت هذه الكذبة العارية من الصّحة المستحيلة الحدوث مبسوطة باستفاضة أمام السّلطان في تقرير سرّي مرصود لفضح رموز الفساد في البلاد،وتجريمهم ومحاكمتهم،وردّ كلّ ما اختلسوه إلى خزينة الأمة.

وقد اشتمل التّقرير على اسم سارق واحد،وهو الإسكافيّ الكذّاب،وأشار إلى أنّه قد اختلس أخطر كنز وطنيّ،وهو نجمة في السّماء،وهو مطالبٌ بردّها إلى خزينة الشّعب لاسيما أنّه معترف بجريمته النّكراء التي عليها شهود عدول على رأسهم حبيبته الخطيبة،في حين خلا التّقرير من اسم اللّص الأعظم في البلاد،وهو السّلطان؛فمن يستطيع أن يومئ له بفساده مغامراً بدحرجة رأسه عن كتفيه؟! كذلك خلا من أسماء كلّ الوزراء والمسؤولين والنّبلاء والشّرفاء والمتنفّذين وكبار رجال الدّولة والجيش والسّياسة والأحزاب وحيتان التّجارة وسدنة المال والمصارف والإعلام؛فجميعهم لصوص كبار مسيّجين بالنّار والحديد والسّلطة،ولا أحد يستطيع أن يلوّح لهم بعقاب أو قضاء أو محاسبة،أمّا صاحب النّجمة فهو أرض حلال على كلّ باغ أو قاصد أو قاطع سبيل.

السّلطان اللّص ثار وأزبد غضباً لحرمة السّماء ذات النّجمة المسروقة،وأعلن حكمه العدل في خطاب رسميّ سلطانيّ،وأعلن أنّ النّجمة حق وطنيّ،وتراث إنسانيّ حضاري،وعلى الإسكافيّ أن يردّها في التوّ والسّاعة إلى خزينة الشّعب،وأن يدفع غرامة هذا الاختلاس فضلاً عن لزومه السّجن مدى الحياة ليكون عبرة لكلّ من تحدّثه نفسه باللعب بمقدّرات الوطن،ونهب خيراته،والاستهانة بحماه،وقد أيّده كلّ الشّعب في حكمه العادل البائن الحزم.

عندها أُسقط في يديّ الإسكافيّ الكذّاب،وأعترف بكذبه ومزاعمه الملفّقة بسرقة النّجمة،وأوكل مهمّة إشاعة خبر اعترافه بكذبه لحبيبته الثّرثارة،ولكن رجال كبير الجند كانوا لها في المرصاد،وكي يأمنوا ثرثرتها في هذا الأمر،فقد قطعوا لسانها،وأراحوها منه إلى الأبد بعد أن حرموها من موهبتها الفذّة المبهجة لقلبها.

وفي صباح ليلة مقمرة قضاها السّلطان يخطب في شعبه ناعياً لهم النّجمة المسروقة التي ثبت بالدّليل القاطع أنّ الإسكافي قد هرّبها خارج الوطن،وباعها لجهات معادية نُصبت المشنقة للإسكافيّ المجرم عدو الوطن والمواطن وسارق النّجمة،ورأفة به فقد سّمح له قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقّه بأن يُصلّي ركعتين استغفار لله على جريمته البشعة في حقّه وحقّ الشّعب والتاريخ والسّماء والأرض والسّلطان والنّجوم وجهات أخرى رسميّة وشعبيّة،ثم أُقيم عليه حدّ سرقة الّنجمة،وقضى نحبه مكلّلاً بعار خيانة الوطن والمليك والشّعب! ثم تُرك طعاماً لجوارح الطّير وسباع الأرض،وبات نسياً منسيّاً!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى