لماذا يُنبذ المبدع.. وكيف اعتزل. محمد المعايطة

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –

لماذا يهرب المبدع من الشارع؟

يمر هذا السؤال على ذهن المبدع وحده حسب اعتقادي، ولا يتوارد إلا ما ندر وقليلاً جداً إلى ذهن الشارع أو المتلقي العادي كما يسميه المبدعون، وقد يشتكي كثيراً المبدع من هذا النبذ الذي أصبح فيما بعد عزلة له وباختياره، بحجة أن الشارع لا يحتمل فضاءاته، هذه الجدلية التي منذ الأزل تطرح نفسها مراراً وتكراراً، لذا دعونا نحاول بتحليلات سريعة أن نشّرح ولو قليلاً هذه المشكلة بطرحنا لهذا السؤال في بداية المقال.

لماذا يهرب المبدع من الشارع؟

 لعل المعظم يرى بأن المبدع يعيش بعيداً عن الأرض، وليس على تواصلٍ مع واقعهم الحقيقي، الطافح بالصعوبات والغلاء والركض اللاهث وراء لقمة العيش، غير آبهين بأسئلة المبدع، ولا سيما سؤاله الأهم عن الوجود، ومن البديهي أن يغير الفقر الذوق الجمعي للناس ولبنية المجتمع، مع كل هذه الإنكسارات والهزائم على المستوى العام ومستوى التجارب الشخصية، فتغدو فكرة الإبداع بالشعر والأدب والفن وغيرها، أمراً ترفيهياً زائداً عن حاجة المجتمع، وعلى غير صلة به، فبرأي الشخص العادي بأنه لو غاب عن الوعي لوهلة فاته قطار لقمة العيش، وأصبح لا بدّ أن يبذل جهداً إضافياً ومضاعفاً للحاق به وتعويض ما فاته، والإبداع ومتابعات الإبداع التأملية _مرة أخرى_ والخيالية الخالية من الواقع _كما يراها العادي_ بعيدة عن واقعه الصعب، وتعد _كما يراها أيضاً_ عائقاً له في ركضه المستمر ليعيش.

 أضف إلى ذلك أيضاً أن عصر السرعة لا يحتمل فضاءات الإبداع البطيئة، القائمة جداً على ذهنية العمل الإبداعي، حتى حين يطرح اليومي المعاش، فكل هذه العوالم الإفتراضية بتعليقاتها وساحاتها القصيرة محدودة الكلمات والسريعة، لا تسمح للشاعر أو الأديب أو غيرهم لقول ما لديه، أو حتى التفكير ليقول ما لديه، فإن لم تأتي بفكرتك السريعة القصيرة في هذا الفضاء ضاعت فرصتك، وإن وضعنا الإبداع بحيز الإفتراض أبعدناه أكثر من الواقع.

ومن ناحية أخرى لجأ المجتمع إلى هذه الفضاءات والعوالم الغير حقيقية ليعوضوا نقصهم في الواقع الحقيقي، فيكون غير نفسه من جهة، ومن جهة أخرى، لهروبه من مطرقة الواقع بترفيهٍ رخيص الثمن وسريع، وبهذه الحالة أيضاً يكون غير معني لمتابعة الإبداع، ومن جهة ثالثة، كآبة وتعب ما يعيشه يأخذه للبحث عن الضحك والكوميديا بكل أشكالها لا سيما السريعة والخفيفة، وهذا يفسر كثرة البرامج الكوميدية التي تظهر على اليوتيوب مثلاً، والتي تطرح نفسها لتكون فضاءاً آخراً أثبت فاعليته.

وكل ما سبق ينبذ المبدع من مكانه في الشارع وبين الناس، حتى ملّ نفسه من هذا النبذ واختار عزلته، لذا نجد معظمهم يرتادون نفس الأماكن ويعيشون بنفس المدينة ويلبسون نفس الملابس ويسرحون ذات تسريحة الشعر، خالقين مجتمعم الخاص الذي كانوا يحلمون فيه، ففي هذا المجتمع يرون أن الجميع يتشاركون نفس الآراء والقواسم بينهم، فلا يشعرون بالنبذ أو الإختلاف، ويبقون حانقين على الطرف الآخر أو العامة الذين لم يستطيعو تقبلهم ودمجهم في حيواتهم، وتكبر الهوة أكثر بين الطرفين، وتبدأ أفكار جديدة تخلق نفسها في هذا المجتمع الجديد والمدينة الفاضلة كما يراها المبدع، مثل “أن الإبداع لا شأن له في الشارع ومشاكله، ولم يُخلق لينسخ هذه المشاكل ويتكلم عنها”، هذه الأفكار المخالفة تماماً لصوت الإبداع والمبدعين فيما سبق، حين كان المبدع هو صوت الشارع والناقل لمآساتهم، وكان يشرب قهوته في مقاهيهم الشعبية، وكان الشاعر على سبيل المثال يقدر بقصيدة واحدة أن يحرك مظاهرة كاملة، وأن يخطب في الجماهير بأراءه، عكس هذه الأيام التي الشاعر فيها لا يحرك بـ”أعماله الكاملة” بضعة إعجابات على الفيسبوك.

هذه هي المقالة الثانية بعد مقالة “الشارع والمبدع والهوة القاتلة بينهم” التي نُشرت في جريدة الدستور الأردنية منذ بضعة أعوام، والتي أطرح فيها هذه المشكلة بين الشارع والمبدع، وكل واحدة من المقالتين تأخذ زاوية تختلف عن الأخرى، ولكن تبقى هذه الجدلية وهذا السؤال عن الشارع والمبدع، والجفاء الكبير الذي يعيشه الإثنان، ألم يحن الوقت ليكون هناك تحرك من كلا الطرفين لتضييق هذه الفجوة والتقليل منها، تبقى الفجوة تتسع، والمبدع معزول والشارع غائب، والآراء في هذا الموضوع تتوالى وتتوالى إلى أن يكون هناك حلّ جذري وفاعل، ينهي هذا الطلاق بين الطرفين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى