آدم حنين. . الملاذ الحجري

الجسرة الثقافية الالكترونية
*لينا هويان الحسن
المصدر: السفير
الدخول إلى محراب الفن، لحظة أدبية رائعة. أن تغادر ضوضاء القاهرة اليومي وتذهب صوب الحرانية الكائنة في الجيزة، حيث المساحات الخضراء الممتدة حتى تخوم الاهرامات.
أن تتبع تلك اللافتات الصغيرة التي تشير إلى متحف آدم حنين، وتصل البوابة المعدنية الكبيرة، تقرع الجرس، يفتح لك الموظف المسؤول عن استقبال الزوار، تدخل ذلك العالم المزدان بمنحوتات من كل أحجام مختلفة ومواد متنوعة، حيث اختار الفنان والنحات آدم حنين إقامة متحفه الخاص، الذي احتوى على أربعة آلاف عمل فني من أعماله النحتية والمرسومة على امتداد خمسين سنة من مشواره الفني. بسبب خوفه من «الضياع» عمل على إنشاء المتحف. استثمر مساحة الحديقة الواسعة في بيته لإقامة متحفه على نفقته الخاصة.
ستسمع كلاماً لا يقوله قط آدم حنين إلا من خلال منحوتاته. سيلفتك «صمته» المنسجم مع حركته البطيئة وتلك الكلمات التي بالكاد تخرج من فمه. كأنه يريد أن يقول: (هاكم أعمالي، تتحدّث عني). ستدهشك تلك الكتل الصخرية الضخمة التي تنتظر تشكيلات آدم حنين في محترفه وتتساءل كيف بإمكانه التعامل مع تلك الصخور. ستتلاشى الدهشة وأنت تتجوّل بين إبداعات حجرية نفذها آدم حنين، أحد أبرز النحاتين المعاصرين في العالم العربي. أنجز خلال مسيرته الفنية عدداً هائلاً من القطع الكبيرة والصغيرة الحجم، باستخدام موادّ متنوعة مثل الغرانيت والبرونز والجص والحجر الجيري والفخار.
بين النخيل الباسق توزّعت منحوتات تقدّم صورة مختزلة عن تجربته ويختصر، إلى حد كبير، التوجّهات الفنية التي حكمت مساره الفني. بين كل تلك المنحوتات الضخمة، ثمة حمامة من البرونز، بحجمها الطبيعي، تبدو كسادنة أزلية لبستان النخيل المزدهي بمنحوتات رائعة.
تمثال الست
بعد الحمامة، سيلفت انتباهك قارب كبير يحمل منحوتات حجرية وبرونزية لآشكال آدمية وأخرى حيوانية، سيتبادر لذهنك أنه تجسيد واضح لمركب نوح، سيخرج آدم حنين عن صمته ويقول ببساطة شديدة إنه مركب آدم واسمه «عفاف». عندها ستنتبه إلى الاسم المدوّن على مقدّمة المركب وترى نقش اسم «عفاف» الذي سيحيلك إلى تلك الفترة التي نال فيها حنين منحة دراسية لمدة سنتين من أجل متابعة تحصيله في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ. ذلك كان في سنة 1957، حيث سيلتقي خلال أحد معارضه بعالمة الانثروبولوجيا عفاف الديب التي أصبحت زوجته، أيضاً مديرة وناقدة أعماله في بداية مسيرته الفنية. حيث انتقل معها سنة 1971 إلى باريس وأقاما خمسة وعشرين عاماً. كرّس نفسه خلال تلك الفترة لفنّه في محترفه الواقع في الدائرة الخامسة عشرة في باريس قرب بورت دو سيفر.
ضوء الشمس الغاربة على منطقة الجيزة تضيء المتحف وتحديداً منحوتات الدمى البرونزية الصغيرة المشغولة بدقة وأناة صائغ الذهب، لماذا الدهشة؟! آدم حنين ولد في القاهرة من أسرة من أسيوط تعمل في صياغة الحلي.
الموروث الحضاري
وكل تلك اللوحات التي نفّذها حنين على ورق البردي تومئ إلى ذلك اليوم الذي كان فيه حنين بعد طفلاً في الثامنة من عمره عندما اكتشف المتحف المصري للآثار خلال زيارة مع المدرسة، فظل يتذكر هذه الزيارة لاحقاً كنقطة تحوّل في حياته.
لكل نحات منطلقاته الجوهرية الناتجة عن تجربته ومعايناته لقوانين الطبيعية. وحنين يبدو واضحاً انطلاقه من فن النحت المصري، لكن مع انفتاح حقيقي وكبير على فنون الحضارات الأخرى.
الكثافة التعبيرية التي تطالعنا في متحفه من منحوتات بكل الأحجام ومن مواد مختلفة، ورسومات موزعة بين البردي والقماش والورق المقوّى، تدفعنا لسؤاله عن علاقته بالرسم. سيقول من دون شرح كبير وببساطة وبداهة: «كلما تعبت من النحت، وفرغت طاقتي، ألوذ بعالم الرسم، لالتقاط الأنفاس، وأشحن طاقتي عاطفياً وفنياً، ومن ثم التهيؤ للعودة بقوة إلى النحت». لا يخفي حنين تعبه عندما يرهقه الصخر، لكن ذلك لا يعني ابتعاده عن الفن، فن الرسم سريع وبسيط، ولا يحتاج إلى وقت طويل كالنحت، وسيلبي رغبة حنين بالبقاء في محراب الفن.
ستصادفك أم كلثوم، بتمثال ضخم وفي أكثر من لوحة. أسأله عن تمثال «الست» يقول: «كنت أمشي في شوارع القاهرة، ولا أسمع غير صوتها، المقاهي والبيوت والدكاكين الصغيرة والمحال كلها يصدح منها صوت أم كلثوم».
صلب وكثيف هو الحجر وحنين من دون أن ينزع عنه طابع الصلابة والرسوخ يطوّعه إلى درجة تجعل منه مادة لينة ورخوة، إلى حين الانتهاء من العمل الذي يمنحه جهد حنين ملمحه الصلب الأخير. بعض منحوتاته الصغيرة التي لا يتجاوز علوّها بضع سنتيمترات تعطي الانطباع بأنها ضخمة، عالية..
أتوقف عند لوحات بالخط الأسود، كُتبت تحتها أشعار صلاح جاهين، يشرح لي حنين: «يظن الكثير من الزوار أني رسمتها لصلاح بينما في الحقيقة رسمتها قبل كتابة الأشعار، وصلاح جاهين كتب الأشعار من وحيها».
ستدخل عالماً من الخيال المجسّد بفن النحت وأنت تجوب طوابق المتحف هناك حيث أقام مسكنه ومحترفه في منزل من الطوب الطيني بناه المهندس المعماري الشهير رمسيس واصف.
حنين عاد إلى مصر سنة 1996، وكان قد أصبح فناناً معروفاً على المستوى الدولي. وغداً يتمتع بشهرة عالمية كأحد أبرز النحاتين في العالم العربي. وكان ضمن طليعة أدبية وفنية تمثل جيل الستينيات في مصر. فقد تخرّج من كلية الفنون الجميلة قسم النحت العام 1953. ثم التحق بأكاديمية الفنون الجميلة (ميونيخ) بألمانيا العام 1957. أقام في باريس منذ 1971 ولمدة 25 عاماً كفنان محترف يعيش من إنتاجه الفني. وعقب عودته إلى مصر أشرف على ترميم تمثال أبو الهول بالجيزة 1990، ثم أسس سمبوزيوم النحت الدولي في أسوان. أقام معارض خاصة ومحلية في القاهرة وفي عدد من البلدان الأوروبية.
إذا كان الفنان المصري القديم قد برع في فن النقش والتصوير على جدران المقابر والمعابد وترك كل تلك الصروح من النقوش التذكارية التي تملأ بر مصر، على المسلات وأوراق البردى وحتى على أدوات الزينة وأدوات الطعام والحلى والتوابيت والأثاث، فإن آدم حنين حمل ذلك الموروث الحضاري الهائل بجدارة وإخلاص إلى حد التفاني. يعتكف في ملاذه الحجري، يعرف أن للحجر ديمومة وللفن أزلاً، فيصبح كل عمل فني بمثابة لقاء مع التاريخ. أنجز متحفه آدم حنين، لأنه يعرف أن الفن يعيش بوظيفته التي هي أن يتيح للناس الإفلات من وضعهم كبشر، وليس عن طريق الهروب، بل عن طريق الامتلاك..