آلام العقد الخامس.. نص جديد للكاتب إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية –خاص-
” الى باسل رفايعه”
في الصباح الباكر، نجلسُ مثل كَهلين مَرِحَيْن، نتحدثُ بحماسةٍ واندفاع، كأننا نحتفلُ بأنَّنا لم نمُت في اليوم الماضي !
يشكو لي من ألمٍ بسيطٍ في الكتف، نتناقش في الأسباب المقترحة طويلاً ثم نتفقُ أنَّهُ ربما كان نتيجة طبيعية لاصطدام كتفه بالباب قبل قليل . ثم نشفى، كِلانا، سريعاً ، حين تمرُّ امرأةٌ فتخبطُ الهواءَ بعِطرها الفارع .
دائماً ثمة سطرٌ أو سطرين في أي خلوة سريعةٍ لنا، عن طفولتنا في “معان” و”الوحدات”، ويتهدَّجُ صوتانا ونحن نستعيد فظاظة الزمان على المكان، ثم سرعان ما يروح يقولُ لي بغبطة يجب أن نسافر معاً الى “امستردام” !
يتلبَّسُنا شعورٌ عارم ، دائماً، في الحديث، بأنَّنا نَجَوْنا . لا نعرف مِن ماذا. ومِن مَن . لكنَّه هكذا، نلتقي في كل جلسةٍ كأنَّنا وصلنا للتوِّ من سباق ركضٍ طويل ، استطعنا في آخره تضليل شخصٍ ما، أو زمانٍ ما، كان يركض خلفنا.
في الحقيقة يغمرنا أيضاً فزعٌ هائل من شيءٍ ما خَفيّْ ، وهنا يأخذُ الحديث غالباً شكل “التطمينات” ، فنسخرُ من أي هولٍ مقبلٍ : ألم نكن قادرَين على اجتياز السبعينات بدون لمبة كهرباء وبدون خبز وبدون “هواتف سامسونغ الذكية”! نحن الولدَين اللذَين باعا “الجرايد” و”الكعك” بعد دوامهما المدرسي، وسهرا بحدّ فانوس الكاز يقرآن الروايات وأشعار درويش، نجلسُ الآن على بعد أمتار من أشهر ناطحة سَحاب في العالم، نلبسُ قميصَين ثمينَين، ونتبارى في الوسامة، ويحدثني عن غيرته القديمة من “مدارس الوكالة” التي كانت توزع علينا “الفيتامينات” والحليب، وأحدثه عن غيرتي من كل صديقٍ أردني كان يعود في آخر الأسبوع من عمّان لقضاء الإجازة في “قريته الأصلية” !
ثمة وخزةٌ ما ، كل يوم، في مكانٍ ما من الجسد، أو من الروح، في هذا العمر، أنتظره صباحاً أو ينتظرني، لنتحدث عنها، ثم يقول لي فجأةً ” تعال نبطّل الدخّان مثل هالرجال”، فأمدُّ يدي أشعل له سيجارته الممدودة !
رَوَّضتنا الحياة؛ صرنا طويلي البال ، هكذا خلُصنا في آخر مرة تفحَّصنا فيها نفسينا، وقال لي : هل تحلم ؟ لم ينتظر إجابتي وأكمل : انا أحلم كل ليلة أحلاماً سخيفة، حلمت أمس أنني جالس مع محمد علي كلاي ، وقبلها كنت جالساً مع شوارزنجر أمام مسجد قريتنا في معان.
يتحدث مثل طفل، وأستمع مثل طفل ، ربما لشعورنا العميق بأننا وُلدنا بلا طفولة؛ ولدنا في العشرين من عمرنا، والآن ننظر لأطفالنا المتعجِّبين كيف كانت الحياة بدون “بلاي ستيشن”، ونشعرُ بالغيظ : لقد كانت بدون جرابات أيضاً في الشتاء ، وكانت غرفة الطين الوحيدة هي صالة الطعام وغرفة الضيوف ومكتبة البيت وشرفة المنزل وغرفة الجلوس ومخزن الحبوب وتنام فيها الى جانبنا الماعز والدجاجات والجدَّة الضريرة !
نتحدثُ عن “الأوطان” بوفاءٍ بالغٍ ، لكنَّنا لا نكتمُ رغبتنا المُلِحَّة جداً بأن نشفى مِنها.
نهجوها ثمَّ نقفز في كرسيينا حين تمرُّ من فوقنا أوَّلُ طائرة ، ويقول لي : كنا نعرف أوَّلَ الصيف حين يغيّر الجيش زيَّه الشتوي ، وأقول له : تعرَّفتُ على “رائحة الجوافة ” حين كنتُ طالباً في الإعدادي أعملُ الصبح عتَّالاً في سوق الخضار !
نتبادلُ الخبرات حول الوخزة المفاجئة : إن كانت في أسفل الصدر فهي للمعدة او القولون، وفي أوسطه الأعلى فهي من القلب، وفي الجهة اليمنى وخزة الرئة المنهكة، أما يسار الصدر فهي التي ما زلنا نناقشها وأوشكنا أن نخلص الى انها مجرد برد !
مثل كَهلين مَرِحَيْن، يُصَفِّقان كل صباح : لقد نجونا !
قلتُ له : الآن بتُّ أعرف أجمل من سيرثيني ، وهذا شعور سعيدٌ بالفعل ! فصدمني بالقول : ولكنِّي أريدك ان تتأخر قليلاً لأنَّني أدَّخرُكَ لنفس المَهمَّة !
أنا لا أستطيع ان أتاخَّر كثيراً يا صديقي . عَليَّ أن أذهب . وهذه رشوةٌ صغيرةٌ لأنَّني سأخيِّبُ أمَلَكْ !