آنّا تود والمليار “نقرة”

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مازن معروف
تفيد مواقع الإنترنت بأن روايتها “في ما بعد” نالت أكثر من مليار قراءة. يعني أكثر من ألف مليون “نقرة”. إنها آنّا تود، الكاتبة الأميركية الشابة (25 عاماً) التي اختارت أن تنشر روايتها إلكترونياً، وبصيغة فقرات طويلة، عبر موقع “واتباد”، ضاربة بعرض الحائط الطرق الكلاسيكية والمعهودة في النشر، ومتجنبة بذلك الاحتمالات السلبية التي تؤرّق كل كاتب.
لم تذهب تود إلى الصيغة الورقية. ولم تمرّ كتابتها على الأرجح بمسطرة المحرر الأدبي. كتبت قصة إيروتيكية ونشرتها، ثم استتبعتها بأجزاء أخرى إلى أن انتهت بثلاثية، نال الجزء الأخير منها أكثر من نصف مليار “قراءة”، فيما حصد كل من الجزءين الأول والثاني أكثر من مئتي مليون. لكن “النقرة” لن تعني أبداً أن الكتاب قُرئ كاملاً. بل قد يكون تمّ تصفحه فقط. في بعض المراجعات التقييمية للقرّاء على موقع “غود ريدز”، وُصِفت الرواية بأنها “زبالة”، فيما وضع البعض نجمة واحدة عليها.
الكتاب يحكي قصة تيسّا التي تعيش حياة هادئة ومنظّمة. فتاة سليلة تربية “كلاسيكية”، طموحة، ولديها صديق يحبها وأم تهتم لأمرها. وفي رأسها مشاريع “عادية” للمستقبل ستوفر لها استقراراً اجتماعياً. لكن انتقال تيسا إلى الجامعة، يضعها في اختبار وجودي “نوعي”. تلتقي بالشاب هاردين، الطيب والعنيف في آن. هاردين (هو النجم الموسيقي البريطاني هاري ستايلز المشهور في أوساط المراهقين) يرمز لشخصية “عصرية”، فوضوية، رقيقة وعنيدة في الوقت نفسه. بنمط حياته “الإكزوتيك”، وجسده الذي يملأه الوشم، وبذلك القرط في شفتيه، يمثّل نوعاً من الشبان لم تعهده تيسا من قبل. إنه شغوف بالحب والجنس. ومعه تنطلق علاقة في توتر دائم.
العمل موجه إلى فئة محددة من القراء. المراهقون تحديداً. هؤلاء المتشابهون في لغتهم، ومفاصل حياتهم اليومية، وتوقهم للاختبار والاطلاع والانغماس التام في الموسيقى الجديدة وعالم الإلكترون. إنهم يتجاوزون، وبفعل الوسيط الإفتراضي، كل الاختلافات الثقافية والعرقية. وبالتالي، فإن الاختبارات النفسية التي يعايشونها تنطوي على تشابهات في التجربة والنتائج. واللغات التي شكلت دوماً أسلوباً لتفسير العالم، أو وصفه، وعكست عقليات الشعوب، يمكن أن تتنحى جانباً هنا لصالح التجارب العاطفية والاستهلاكية السريعة والتي تبدو كأنها موجّهة لاسلكياً كسيارات بلاستيكية عمياء.
تود تعرف جيداً المفاتيح المُحَرِّكة لروايتها: الجنس والإيروتيك والموسيقى، إشكاليات الحب وفضائح النجوم، زوايا تسترعي انتباه طيف كبير من المراهقين. وثلاثيتها، بغض النظر عن قيمتها الأدبية، هي أندرغراوند اجتماعي لصورة المراهقين، وملجأ لم يستطع الأدب، بقيَمِه المُتوارثة وجمالياته الشكلية والموضوعية وذاتيته، أن يؤمنه لهم بشكل منصف حتى اليوم.
وباستعمالها الإنترنت وسيطاً للنشر والتوزيع في آن، تكون الكاتبة قد أتمت من خلف شاشة لابتوب في تكساس محل إقامتها، كل شروط المعادلة الترويجية، من دون أن تحمل فعلتها هذه بالضرورة روح مانيفستو ما. لكن، ما لا شك فيه، هو أن العالم الافتراضي يتدخّل “بجسارة” في الأدب، هذه المرة.
اللافت هو أن رقم النقرات الهائل فرض ثقله بشكل لم تستطع دور النشر تجنّبه. فنشرت الرواية ورقياً بعد نشرها افتراضياً، ثم تُرجمت إلى عدة لغات. وقد حازت تود “مبلغاً من ستة خانات” مقابل تحويل نصّها إلى كتاب مطبوع. كذلك الحال بالنسبة لشركة “بارامونت” العريقة، التي أعلنت أخيراً اقتباس العمل سينمائياً. إنها بلا شك سابقة. كسر لكل المراحل التي اعتاد الأدب المرور بها. في الوقت نفسه، فإن ما جرى يمكن تفسيره كنتيجة طبيعية للأثر الذي يمكن أن تصنعه الميديا في توجيه الأدب أو القارئ حتى وفرض المواضيع وإعادة طحنها. وبتجربتها الكتابية الأولى، تعلن آنّا تود نفسها حالةً مضخمة آلاف المرات لمفعول باولو كويلو تجارياً أو دان براون أو حتى أحلام مستغانمي.