أتذكّر… إذن أنا موجود…

الجسرة الثقافية الالكترونية
*لينا هويان الحسن
دائما تعاملنا مع أوابدنا التاريخية، إما نهملها ونتركها للقمامة، أو نسرقها ونبيعها للغرب.
ما يهلكنا إنما هو الزمن، والزمن الحالي، المحتضر بطبيعته كما يقول بورخيس، جاهز لأن يتلاشى في الماضي خلال اللحظة التي يعلن فيها ما سيحدث. فمرور الزمن يهدد، ويتوعد، كيف نتخلص من عمله المخرب والرهيب بدون الكتابة، والتدوين، والكتب والمكتبات؟!
لهذا تسرق مكتباتنا وتنهب!؟
بمرارة قرأت خبر سرقة مكتبة عبد الرحمن منيف في دمشق، ذاتها المرارة انتابتني وأنا أسمع تقريرا عن سرقة مكتبات القدس، وأعلام فلسطين، سرقة مكتبة خيري السكاكيني ومكتبة العلامة عبد الله مخلص واندثارها على رفوف الجامعات العبرية.
في الوقت نفسه يحضر السؤال: كيف نحمي ذاكرتنا، تاريخنا الذي يهشم على مرأى أعيننا، تارة مكتبات تسرق، أو تحرق، وتارة أخرى تماثيل أثرية لا تقدر بثمن تنتهك بمعاول الظلام وتدمر باسم الدين.
تحضرني صورة فوتوغرافية لكتب مقيدة بالسلاسل بغاية حمايتها من السرقة، مثل مكتبة كاتدرائية هيرفورد، في إنكلترا الأكبر على الإطلاق، ضمت كتبا مربوطة بالسلاسل وهي سليمة حتى وقتنا هذا. تضم هذه المكتبة مجموعة قيمة ونادرة من الكتب.
منذ مدة غير بعيدة تم تحويل العديد من المكتبات ذات السلاسل إلى متاحف مفتوحة للجمهور.
ربما الطين وحده أثبت جدارة بالبقاء مقارنة بالورق. مثل مكتبة مملكة ماري الضخمة التي تعود إلى القرن الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد، حيث ضمت المكتبة محتويات تصل إلى 25 ألف رُقم طيني، وهي تعتبر من أكبر المكتبات في تاريخ الممالك الأثرية، فيها ذكر لأسماء شرائح من البشر من طبيب ووزير وفارس وفلاح، كما تحدثت الرقم عن التجارة والمزروعات التي كانت تزرع في «ماري» وصناعة السفن والمتاجرة، وبفضل حريق كبير نشب في لحظة دمار ماري، تصلب الطين وظل كامنا، داثرا، حتى جاءت اللحظة التي كُشف فيها.
أوابدنا التاريخية
هل قدرنا أن ندمر تاريخنا بأيدينا؟ هكذا دائما تعاملنا مع أوابدنا التاريخية، إما نهملها ونتركها للقمامة، أو نسرقها ونبيعها للغرب، وطبعا كل ذلك برعايات حكومية خالصة.
ربما لأجل الحظ وحده نجت من التدمير والتخريب ملحمة جلجامش، الملحمة السومرية المكتوبة بخط مسماري على 12 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف في ما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه «شين ئيقي ئونيني» الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
هل حقاً هنالك ذاكرات قوية وأخرى ضعيفة؟ وهل حقاً وكما يعلن جاك دريدا في واحدة من عباراته الإشكالية: «يمكننا أن نرى في المبدأ الآمر للأرشيف، موضوع ذاكرة بامتياز، مبدأ توحيد، تحقّق، وتصنيف» ذلك ما ذكره تماماً في مؤلفه الشهير «مرض الأرشيف».
متى يكون التاريخ قابلاً للجرد؟ هل يحتاج الماضي إلى التنظيم؟ هل تنظيمه مهمة منجزة فعلاً؟
هل ثمة مرض يسمى «أرشيفات الأنا أو الشغف بالسيرة الذاتية»؟ كيف يمكننا أن نرسم مجدداً ما هو مبعثر في الواقع؟ وأن نحوّل ماضياً مصنوعاً من القطيعات وضروب عدم الاستمرار إلى خط يصل بين ما هو متناثر.
نعيش زمنا يقتات على التلاعب بالذاكرة، بالتاريخ، ثمة تلاعب عنيف، وكأن كل الحرب افتعلت في العراق وسوريا لأجل تدمير الآثار والمتاحف، والحضارة.
نحن العرب لم نكن يوما حماة ذاكرة. كنّا دائما أبطال التلاعب بالذاكرة، إما لغايات وطنية أو لغايات إثبات الهوية، أو لإضفاء ماهية ما على جماعة محددة…
كل الأمم تصر على أن تقدم نفسها بوصفها قديمة جدا منذ عهد سحيق. ونحن الأمة التي تملك هذا الماضي السحيق الى حد أنه يكاد يبتلعنا.
من ينقذنا من تجاذباته، من ينقذ أوابده الجميلة من التدمير، وفي الوقت نفسه من ينجينا من سلاسله؟
يبدو كأن الجميع استفاقوا على هوس تجميع الهويات، إلى حد أنه قد يلجأ البعض إلى السوق السوداء لأجل شراء نسب؟!
أصبح النسب تجارة رائجة، الجميع يريد الانتماء، إما لجذر يربطه بسلف له مكانة دينية، أو سلف نبيل له موقع ملحمي…؟!
إتلاف الذاكرة
ربما إتلاف الذاكرة يكون لمصلحة أنساب جديدة وأشجار عائلية حداثية؟!
اِذهب لتاجر يمنحك ماضيا؟ الجميع يتمسكون بماضيهم، الكل يريد ماضيا يتكئ عليه، ليستل من ثغراته خنجرا يطعن به الآخر.
ما أتعسنا ونحن نتفرج على تدمير آثارنا، وسرقة مكتباتنا، ونهب متاحفنا. ما أحمقنا ونحن نتغذى على خلافات الأجداد لنصنع حروبنا الجديدة.
وظيفة المتحف أن ينقذ الإرث من التلف المادي ومن النسيان، ويجعل من التحف سردا أمينا حقيقيا للهوية، لهذا تدمر المتاحف.
وحده التواطؤ جعل تاريخنا في مهب التلف والتدمير.
من يسرق مكتبة يعرف أنه يجتاح مناطق وثائقية.
تحضرني تفاصيل أسطورة تحوت اله الكتابة المصري الذي اخترع الكتابة وذهب يعرضها على الملك آمون. عرض اختراعه بوصفه علاجا لعيوب الذاكرة، آمون يهنئ تحوت، ولكنه يحذره لافتا نظره الى شيء مهم: «ان هذا الابتكار سينتج النسيان في نفس اولئك الذين سيكتسبون المعرفة به، إذ يعفيهم من ممارسة ذاكرتهم، وكونهم واثقين من الكتابة فإنهم سيبحثون في الخارج، بفضل حروف غريبة وليس في داخلهم وبفضل جهودهم الذاتية عن الوسيلة للتذكر مجددا».
ربما لهذا لم يثق الفراعنة بالكتابة وحدها، إنما وثقوا بالحجر أكثر، فبنوا الأهرامات وآثارا ضخمة تبدد مخاوف النسيان.
من يدمر التماثيل والصروح والنصب التذكارية يعرف تماما أنه يستأصل ذاكرة شعب.
في ساحات الحروب، يقتل البشر، وتسفك الدماء، وينتهك التاريخ، ويباع.
آثار العراق يعرضها «داعش» على صفحات الفيسبوك للبيع، مرة أخرى «التواطؤ» وحده يسمح لـ «داعش» وآخرين ببيع أوابدنا، وماضينا الجميل.
هنالك من يريد غربلة تراثنا، فيدمر جميله ويبقي على قبيحه. ويبيع بعضه. لكن العار أن أناملنا مدسوسة بين أيديهم.
المصدر: السفير