أجيال من الكتّاب المصريين ترنو صوب الحرية وتسائل ثقافة القمع

الجسرة الثقافية الالكترونية
*يسري عبد الله
المصدر: الحياة
عام من الكتابة المصرية المشغولة براهنها المعقد والمتشابك، والمسكونة بتنويعات مختلفة، لا يمكن التعاطي معها بوصفها كتلة واحدة. في العام 2014 بدا القارئ المصري أمام موجات جمالية مختلفة، بعضها يلتحم بالهم العام، ويسائل واقعه المحلي، ويعرّي تناقضاته، ويتماس – بصيغة أو أخرى – مع الثورة المصرية بموجتيها (25 يناير2011/ 30 يونيو 2013)، وبدا الشعر حاضراً في المتن، عبر نصوص شعرية لم تغب عنها روح الثورة، ولا جمرها المتقد، والمنفتح على أسئلة تخص الشعر والواقع معاً، فكان ديوان «الخروج في النهار» للشاعر محمد رياض، حيث ثمة ذات شاعرة مأزومة ومتمردة في آن، لم تعد تؤمن بشيء، سوى بزخم المجموع، فتحضر الثورة، ويحضر الميدان، ويحضر التمزق بين الحلم والحقيقة، بين الطموح والمآلات، ويصبح انتصار الشاعر مقروناً هنا بمقاومته، ومن ثم كان التقسيم الدال للديوان ما بين «الشاعر ينتصر»، و «الخروج في النهار». ويتماس الشاعر عاطف عبدالعزيز مع الثورة أيضاً في ديوانه «ترجمان الروائح» وتبدو قصيدته «حاملة الجرار» والمهداة إلى سالي زهران؛ إحدى شهيدات الثورة المصرية وأيقوناتها بابتسامتها العذبة وشعرها الأجعد، من دون أن ينسى الشاعر أن يصل المتخيّل بالواقعي، لنصبح أمام عالم تخييلي بديع ينطلق من رحم الواقع وزخمه في آن.
ومن جغرافيا شعرية مختلفة تنطلق غادة نبيل في ديوانها «هواء المنسيين»، مشغولة باستعادة عوالم يتواشج فيها الأسطوري بالواقعي، والكشف الأصيل عن مساحات جديدة في النفس البشرية. وعبر لغة شعرية محايدة لا تحمل انفتاحاً دلالياً، وتحوي قدراً أقل من المجاز، جاء ديوان الشاعرة فردوس عبدالرحمن «قدم متسخ» ابناً لدهشة العادي، حين يستحيل إلى بناء إنساني، يستعيد الهواجس القديمة ويسائل الذات، ويلعب على تناقضاتها في آن. وفي «الرمل إذا غوى» للشاعر محمد حربي، يطل الميدان من جديد، وتبدو الثورة خيطاً متصلاً من المعاني المتجددة: «لا أبغي إلا غنمي/ فلي فيها مأربة واحدة/ أما الثورة فلها شعب يحميها/ أو يلقيها في الميدان وفي الملح».
الأفق الروائي
تبدو الرواية بوصفها جنساً مرناً قادراً على استيعاب صيغ جمالية مختلفة، وتكوينات فنية متعددة، بوصفها ابنة أصيلة لذلك المنطق الديموقراطي للسرد، وعبر هذا الفهم تتحرك الرواية المصرية فتنشغل بواقعها الغارق في التناقضات الفادحة، وتؤسس لوعيها الجمالي الذي لا يغلق النص على ذاته، بل يفتح أمامه مدارات التأويل والنظر المتعدد إلى العالم والأشياء. ومن ثم جاءت النصوص الروائية في العام 2014، معبرة عن هذا التنوع الفني الخلاق، فمن «عتبات الجنة» التي تضع قدماً في التاريخ وأخرى في الراهن، يبدو الروائي فتحي إمبابي في روايته الجديدة، والتي استعارت الماضي للإشارة إلى الحاضر ومحاولة فهمه، عبر استيحاء حادثة حقيقية تتمثل في استشهاد اثني عشر ضابطاً مصرياً عند حدود خط الاستواء، بعد أن تحالفت ضدهم قوى الرجعية المتحالفة مع مراكز الاستعمار، ومن ثم يهدي إمبابي روايته إلى شهداء الجيش المصري الذين سقطوا في معركة الإرهاب بعد ثورة الثلاثين من يونيو.
ومن الروح الإنسانية في تشظيها وتمثلاتها المختلفة، لا يسع الروائي إبراهيم عبدالمجيد إلا أن يغني لهذا العالم ألماً، عبر إيقاع سردي/ موسيقي بالغ الحزن والرهافة في روايته «أداجيو».
وبدت الثورة حاضرة وبقوة في رواية «بكائية الصعود إلى السماء» للكاتبة نادية شكري، والتي حوت جدلاً خلاقاً ما بين الذاتي والموضوعي، فبدت الثورة إطاراً عاماً للكتابة وعنواناً لها في آن، مثلما كانت إنجي همام في روايتها الأولى «موت الجدة مليكة» معنية أيضاً بالثورة والرغبة العارمة في استكمالها عبر نفس إنساني وجمالي واعد ومختلف.
وثمة نصوص حملت جدلاً ما بين الخاص والعام، وبدا البطل المركزي فيها ملتحفاً بذاته، وخلاصه الفردي، كما في رواية «عشرة طاولة» للكاتب محمد الشاذلي، والتي حمل ساردها الرئيسي موقفاً جمالياً ورؤيوياً واضحاً في مساءلة التيار الديني، وربما عبرت رواية «شمس الحصادين» للروائي عبدالستار حتيتة عن رصد بارع لجملة التحولات الاجتماعية العاصفة التي مرت بها الأمة المصرية، بدءاً من الأربعينات، منطلقاً من فضاء مختلف (الصحراء الغربية)، حيث يبدأ من المكون المحلي، من هذا العالم الحاوي في جوهره جدلاً خلاقاً ما بين حدة الصحراء وسكونها، تقلباتها وهدوئها، وفي سياق سياسي ملغوم يهيمن على فضائه أفق الحرب العالمية الثانية، حيث الحلفاء من جانب، والألمان من جانب آخر، وبينهما أبناء القبائل المقهورون، وصولاً إلى استشراء التطرف في فترة السبعينات وحلول قيم جديدة أكثر رجعية وتخلفاً. وينشغل الروائي محمد زهران أيضاً بجدل الخاص والعام في روايته «حبل الوريد»، واضعاً تاريخين فارقين بين يدي النص، أحدهما يبدو وثيق الصلة بمحنة الذات الساردة ومرضها العضال «5 يناير 2013»، والآخر «24 يناير 2013»، ويمتزج فيه الخاص بالعام، حيث يبدو الزمن دالاً هنا بوصفه عشية الاستعداد لزخم ثوري ضد الفاشية الدينية وحكم جماعة الإخوان في العام المنصرم.
وعن واقع مسكون بالزيف الاجتماعي، والتناقضات الفادحة، وتعرية المسكوت عنه في أنساق اجتماعية تخفي تحت قشرتها الخارجية الساكنة عالماً مسكوناً بالخيبة والإحباط، والكذب السياسي والاجتماعي، بدت رواية «شجرة اللبخ» للكاتبة عزة رشاد، مشغولة بطرح تصور مختلف عن الحياة والعالم، عن مغادرة عوالم جاهزة، طالما كتبت عن الريف المصري، فقدمته شائهاً، رومانتيكياً وغضاً في آن. وفي نص يشف ويقول في آن، يبدو الروائي حمدي الجزار مشغولاً بنسائه المختلفات، واللاتي تعبّرن عن عالم مسكون بالبهجة والوجع في آن، بالحلم والثورة والتمرد في روايته «الحريم».
فضاءات مختلفة
شهدت القصة القصيرة حضوراً دالاً في العام 2014، فبدت معبرة عن فضاءات مختلفة للكتابة، عبر أجيال عدة، وبدت سلوى بكر بمجموعتها اللافتة «ذات الغلاف الأسود»، والتي تتسرب إليها روح الثورة وهتافاتها «يسقط، يسقط حكم المرشد» كما في قصة «بطن البقرة»، من دون أن تنال من جمال النص وفنيته، حيث ثمة روح إنسانية آسرة تضفي على شخوص المجموعة حيوية الاختلاف.
وعن تصدّع عالم وتداعي آخر، عن تلك البهجة العابرة التي تغادر ناسها، نرى الكاتب مكاوي سعيد في مجموعته «البهجة تحزم حقائبها» والحاوية نفساً استطرادياً غير مجاني في بعض نصوصها. وفي «زووم إن»، يستعيد حسين عبد الرحيم أجواءه الحميمة عبر نزوع إنساني آسر، مرتحلاً في الزمان والمكان، بحيث تلوح بورسعيد؛ المدينة الساحلية الباسلة بتحولاتها الاجتماعية المختلفة، في مجموعة تستقي اسمها من مصطلح سينمائي ينتمي في الأساس إلى عالم الفوتوغرافيا، بحيث تقرّب المشهد وتعيد صوغه من جديد، ومن ثم فهي لا تسعى إلى الرصد العابر، ولكن إلى تعميق التناول، الذي اتخذ من الانتصار للجدارة الإنسانية ملمحاً أساسياً.
ويداعب شريف عبدالمجيد الوجدان الشعبي، بدءاً من عنوان مجموعته «تاكسي أبيض»، وصولاً إلى التماس الجمالي مع الراهن المعيش، منطلقاً دوماً من حدث يومي/ واقعي، ثم يمنحه دلالات أكثر عمقاً وطرافة في آن، عبر هذا الولع بالتخييل، فتصبح الفانتازيا صيغته المنشودة والمبتغاة، كما في قصته «السيد الذي لا يحب الطيور»، فثمة رجل انتخبته الطيور لتلقي عليه بعضاً من روثها، فيتعامل مع هذا الأمر بوصفه نذير شؤم، في معارضة للموروث الشعبي الذي يراه فألاً حسناً، ولقناعته المطلقة بأن أياماً قاسية تنتظره بسبب ما فعلته الطيور معه، يتربص بها ليلاً ونهاراً، بل ويقنع سكان عمارته بحتمية مطاردتها، وقتلها، ويشكل فرَقاً لاصطياد الطيور وقنصها، وتصبح حياته وقفاً على هذا السلوك!
وربما يسلّم عنوان مجموعة صابر رشدي «شخص حزين لا يستطيع الضحك» إلى مفارقة دالة، لا تخطئها عين، ليس فقط بين فعلين سرديين منتجين (الحزن/ الضحك)، ولكن – بالأساس – بين الإقرار بحال الأسى، وحتمية المجابهة في آن، في نص يتسم بالبكارة والتنوع، والقدرة على أنسنة المعنى.
وتسائل سعاد سليمان في مجموعتها «شهوة الملايكة» حالة القمع الديني والذكوري للمرأة، والتعاطي معها بوصفها محلاً للشهوة، التي تحيل هنا إلى تراث قامع للمرأة يرى فيها حتمية الاختباء: «استري نفسك»، وهي الجملة السردية التي تتكرر في مواضع كثيرة على لسان الأم – المعبرة عن وعي ماضوي – لابنتها المتطلعة إلى عالم أكثر حرية.
ويتقاطع العادي بالمدهش في مجموعة «روبابيكيا» للكاتبة غادة فايق، ويختلط الحلم بالواقع، وتبدو مشغولة أكثر بالمزاوجة بين ما كان وما هو قائم، بخاصة أن مفردة «روبابيكيا» ذاتها تحيل على متعيّن من الماضي، لكن «الروبابيكيا» ليس شرطاً أن تحوي أشياءنا المادية القديمة، ولكنها أيضاً قد تحوي سلال أحلامنا المهدورة.
في العام 2014 أيضاً رأينا جملة من الكتابات التي تقف على تخوم النوع الأدبي، ومن ثم آثر كتابها وضع كلمة «نصوص» على الغلاف، ومنها «صلوات سبع إلى روح صديقي الميت»، لحسين البدري، والذي يضفر هنا السياسي فى متن الفني صانعاً جدلاً بين الأيديولوجي والجمالي، وبين تداخل الهموم والأحلام والإخفاقات الشخصية، وتصدّع الأحلام الكبرى المحاصرة وسط عالم بالغ القسوة. حيث ينطلق النص من تاريخ فارق ودال هو التاسع من تشرين الأول (أكتوبر)2011، بوصفه تعبيراً عن إحدى انتكاسات الحلم، بل هو تاريخ من الألم يلوح فيه الشهيد مينا دانيال باعتباره رمزاً للمقاومة ودورها.
حكايات افتراضية
وفي كتابها «الحتة الناقصة: حكايات افتراضية» تجدل الكاتبة ناهد صلاح بين الخيال الشعبي والمتن الواقعي للحياة، وعبر تماسهما نرى ثمة قواسم مشتركة عن الحب والحرية والتسامح والحياة التي تألف الموت ولا تهابه، عن الجدة والأم، عن جميلات مقموعات، ونساء أدركن أن في العشق وحده اكتمالهن، لكن ثمة سياقاً عاماً ضاغطاً وزمناً لا يعرف سوى الوحشة والتعاسة يطاردهن. وبدت «أوهام شرقية» لهناء نور كشفاً للمسكوت عنه في ظل بنية اجتماعية قامعة للمرأة، ومسكونة بتصورات سكونية، سابقة التجهيز، كل ما تفعله مزيداً من الحصار للذات الإنسانية في سعيها نحو التحرّر والمغامرة.
لا ينفصل النتاج الذي صنعته القريحة الإبداعية المصرية في 2014 عن الأعوام الثلاثة التي أعقبت ثورة 25 يناير، وإن بدا هذا العام مسكوناً بتجليات سياسية/ ثقافية أعقبت ثورة 30 يونيو، التي استهدفت الخلاص من الفاشية الدينية، وبدت العوالم الافتراضية ممثلة لفضاء مختلف للتعبير الجمالي الحر عن عالم جديد يتشكل، مشغول باستقطابات سياسية/ ثقافية حادة، ومعبأ برغبة عارمة في التمرد والخروج من أسر المواضعات السائدة.
ربما كان التفاعل السياسي/ الجمالي الذي شهدته قـضيـة الناشـطة المصريـة يـارا سـلام دليـلاً على ذلك، إذ رأينا نصوصاً مختلفة تطالب بحريتها، وتنوّعت ما بين السردي والشعري، حتى القصائد المهداة إلى يارا حملت صيغاً جمالية متـعددة وكاشفة عن تنويعات القصيدة المصرية في لحظتها الراهنة.
وبعد.. لسنا أمام رصد إحصائي لجدارية الإبداع المصري في العام 2014، لكننا أمام تنويعات أدبية كاشفة عن زخم المشهد وثرائه، عن قدرته على التجدد، على أن يحوي تجاوراً بديعاً بين صيغ مختلفة، وموجات متعددة، تتشارك في خلق مشهد سؤاله الحرية، وهاجسه الأساسي، موصول براهنه، وعـيـنـه على مـستقبـل تـرنـو إلـيه أيـة كتابة مخـتــلفة وحقيقية.