«أحرق سفنه إلا نعشاً» … المأساة السورية صورة شعرية

-الجسرة الالكترونية الثقافية -السفير

«أحرق سفنه…. إلا نعشاً»… هكذا يختار الشاعر والقاص السوري أحمد م.أحمد عنوان ديوانه الصادر حديثاً عن دار أرواد، مفتتحاً باستثنائه «النعش» الديوان على فضاء تشاؤمي يبحر في يبابه في قصائد الديوان.

لا تفارق ذات الشاعر نصه، يرسمها تشكيلاً نواته صورة سورية اليوم، فيفتتح ديوانه بتلك الصورة «جثث/ بشرٌ أرقامٌ/ ضباعٌ/ جنود قتلى/ جنود قتلى أيضاً/ أحمد م. أحمد»، متماهياً بذلك مع صورة الوطن، فيتحول – وهو المعرفة – إلى نكرة تضاف إلى نكرات هذه الصورة السورية الملطخة بالحرب، وعنصر يساهم في تكوينها.

في قصيدته الثانية «لا يصل صوتي المرآة»، يفارق أحمد بناءه الشعري في قصيدته الأولى، ليختار السرد قالباً لشعره هنا، عبر لغة حافظ بإيقاع كلماتها على الحس الشعري، فلم تبتعد – على رغم شكلها السردي – عن شاعرية نصوصه عموماً. إلا أن النص لا يستمر في تسريب معناه سرداً بل يستبدله بالقصيدة الومضة ذات الأثر السريع والمعنى المكثف، مدلّلاً على هوس صاحبه في تجريب قوالب الشعر، وتقديمها للقارئ بأشكال مختلفة: «الصبي النحات/ غارقٌ/ في نحت شيخوخته». إلا أن تلك الومضات الشعرية، إن أمكن تسميتها هكذا، تفتقد أحياناً المفارقة الشعرية ذات الأثر السريع الدائم في المتلقي، إذ تأخذ اللغة الوعرة إلى إبهام يتناقض وغاية الومضة في تكثيف المعنى لا استغلاقه على القارئ.

تحضر الثورة كمعنىً ومفهوم في جل نصوص «أحرق سفنه». بيد أنها لا تظهر مباشرة وفجة بل تحمّلــهـــا لغة أحمد استعارات مركبة: «لماذا/ ترتعدُ لرماد/ الطاغية؟»، هنا يستبدل أحمد الغنائية التحريضية ذات النزق الثوري، بلغة أقل مباشرة، وبهمـــس يحمــل التمرد ذاته الذي تحملـــه القصـــائـــد الخطابية الرنانــــة، عاكســـاً أول أشكال التعـــبير الجــديدة التي أفــــرزتها الثورة السوريـــة. فالشعر يغلق أبوابــــه فـــي نـــص أحمد أمام الخطابة ليفتحها أمام هسيـــس الـلغــة، مـعبّراً عن الـثورة وخوالجها.

يكاد يخلو ديوان «أحرق سفنه» من أي إشارة مباشرة، أو تعبير واضح، فالشاعر ينأى بنصوصه هذه عن الوضــــوح، إلا حينما يخزه وجع الانتماء والهوية. فنجده في قصيدة «في خوائي» يرصد خواء روحه في حضرة الشعر، متتبعاً تفاصيل هذا الخواء، مفارقاً الغموض الذي يكتنـــف نـــصه ويغدو أداة جمالية فيــــه، إلى الوضوح، ولكــن من دون الهبوط إلى الابتذال والمباشرة الفجة، إذ يبــقى الوضوح علامة طريق إلى غموض تال. فهذا الخواء الذي يتجول في سراديبه الشاعر هنا، لا يمــلأه إلا انتماء لوطن يكاد أن يفقده، انتماء يصرح فيـــه أحمد: «أحب سوريا/ كما يحب زوج عاشق/ زوجة اغتصبها/ مدمن يقود شاحنة/ على الطريق السريعة». بين الـ «ألف»/ و/ الموت!» ليس التصريح هنا هو المغاير الوحيد، فالصورة التي يعتاد قارئ الديوان بنيتها المركبة تغدو بسيطة للوهلة الأولى عبر تفصيل أركان التشبيه كاملة، إلا أن هذه البساطة سرعان ما تتكثف، حينما يرسم الشاعر صورة لوجه الشـــبه تتشابك فيها المشاعر ويلتبس فيها التصور، ويتحول الحب الصريح الواضح في «أحب سوريا» إلى دلالة تشرّع أمام قارئها أبواب التأويل. كـــذلك حينما يحضر الوجع السوري في النص، تتجلـــى حالة تماه يندمج فيها القائل وموضوع مقوله، فيتحول الشاعر إلى «كلٍّ» يحمل معه أوجاع السوريين اليوم: «و/ هذا أنا، أتساقط/ سورياً/ إثر/ سوري».

لا يعتمد أحمد في نصوصه ضابطاً معيناً. هو ينتقل بشعره من قالب إلى آخر، ولا يضع حدوداً لطول قصيدته، فتجتمع في الديوان القصائد الطوال تتلوها وتسبقها الومضات السريعة، ما يكسر وحدة عضوية يُشتف منها بناء القصيدة، وكأنه يسعى على الدوام إلى كسر أي حد أو إطار يحد من جموح الشعر، ويؤطر اللغة التي تعكس اتساع معجم صاحبها، هذا المعجم الذي تطغى عليه غرابة تصل أحياناً شطآن الوعورة. وهذه الوعورة يكسرها حضور أنثوي خفيف الظل: «ولما/ رأيت/ غبار الطلع/ سحاباتٍ/ يطير إليكِ، أيقنت/ أن/ بناتي/ حدائقك». تنساب اللغة هنا سلسة تلعب في فضاء الطبيعة الرحب، ولا تفارق الصورة الشعرية بنيتها المركبة إلا أنها تغدو أرهف من سابقاتها، ما يميّز الحضور الأنثوي في النص، ويجعل من حضور الأنثى ضابطاً لإيقاع التعبير، ما إن تحضر حتى ينقلب النص من شعر يتجول في شعاب اللغة، إلى غزل يمنح القصيدة لذة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى