أحمد باشا شاعر لا يريد أن يتمدد على سكة القطار

الجسرة الثقافية الالكترونية-العرب-
*عمار المامون
تختزل هول الحدث أحيانا تجربة الشاعر، ليقف متخبطا أمام ما يحدث، إذ تعجز كلماته عن وصف كل ما يريد وصفه فالموت، الحياة، الفقدان والرحيل، معالم يحاول الشاعر السوري الشاب أحمد باشا الحفاظ على ذاكرتها عبر التنقل بين حالات شعرية متفاوتة، تحاول التأسيس لحضور شعري أمام ما هو يومي ومبتذل، لتدخله ضمن تجربة نصيّة تستدعي أطيافا سورية وتقاسيمها.
في مجموعته الشعريّة الأولى “لم أتمدد يوما على سكة قطار”، يقدم الشاعر السوري أحمد باشا صورة للشاعر الشقيّ القادر على التمرغ في زوايا المدينة، والتقاط حساسية فقدانها والتغيرات التي تطرأ عليها.
المجموعة الشعرية صادرة عن “بيت المواطن للنشر والتوزيع”، بدمشق سنة 2014، وتوزيع “دار أطلس”، ببيروت.
معالم سوريا
أيّ فعل للقراءة هو إعادة فهم للكون وفق رؤية الشاعر، و تبدأ المغامرة مع أحمد باشا من العنوان، حيث يبدأ بالنفي، إعلانا للرفض، لكن أيّ رفض..؟ رفض للموت القادم المتمثل في القطار، وكأنه يعلن تفاديه للموت وطريقه الماثل في السكّة.
إلا أن المفارقة تكمن في فعل التمدد، فهو فعل إرادي يقوم به المرء، لكن مجرّد الإعلان عن ذلك يفصح حقيقة الموت الذي يتربص بالشاعر، فهو لم يرد أن يضع نفسه على دربه، لكن ما يغيب في العنوان هو ما يفضح حقيقته، فالموت متربص به، وقادم ليلقاه دون أن يدري، إذ سيغتاله أو يقتنصه، لا وجود لعلاقة المواجهة، بل هي خديعة من الموت المتربص بالشاعر.
في القسم الأول من الديوان بعنوان “مقدّمة لا بدّ منها”، نرى الشاعر أحمد باشا ينتقي عددا من التفاصيل التي ترسم معالم لسوريا، موثقا لحضور ظل الموت الثقيل عليها، فالمدينة أقرب للزنزانة المنفردة، حيث يتساءل الشاعر عن حقه في الحرية، ويستعيد تفاصيل الأنثى الحالمة والكراجات والحياة اليومية، التي، على ابتذالها، يحن لها فيقول: “أذني افتقدت لحن الضجيج فجأة، و الأغاني الهابطة وشتائم العسكر المحتفظين بآخر خمس ليرات في جيوبهم”.
ثم يستحضر باشا “حلفايا” والمجزرة التي حدثت بها، وتفاصيل الرحيل إلى لبنان، وكأن أحمد باشا يقتطع أجزاء عضوية من حياته، ويعيد تكوينها بصورتها بعد الاقتطاع حيث تتداخل النبرات وسياقات الدلالة، كأننا أمام قطعة عضوية ما زالت تحمل بعض الحياة وانتفاضاتها.
الحضور والغياب
القسم الثاني من المجموعة بعنوان “إعتام” ونقف فيه أمام نسق دلالي تحمله في داخلها القصائد متعددة الموضوعات، فالظل والنور وتفاصيل العبور نحو البصيرة، تغزل دلالاتها في متون القصائد.
وبالرغم من تعدد الأساليب الشعرية المستخدمة من العبارات الشعرية الواحدة إلى القصائد الكاملة، إلا أننا نلمس حضورا شعريا لتفاصيل ببدائيتها، حيث الصورة أقرب للحميميّة دون التكلف اللغوي، مع أننا يمكن أن نلتمس بعض الهفوات في بناء القصيدة حيث تبتعد عن الوحدة العضوية أو نلحظ طغيان العبارة وشعريتها على حساب تماسك بنيان النص، إلا أن الحضور الذي يستدعيه باشا قائم على رصد تفاصيل المدينة وتحديد علاقته معها، تلك العلاقة القائمة على التوتر، وكأنه ما زال غير قادر على ترتيب وجوده مع حضورها القلق، وبالأخص بانتشار السلاح والفقدان ما يدفع باشا إلى استحضار جماليات غيابه أو قسوة حضوره، فيقول “الحكاية دللت أبطالها، فما كان لأجسادنا إلا أن تشتم النهايات السعيدة، هكذا صرنا يا أمي، نتوسل اللحظة”.
تحضر الأنثى في قصائد أحمد باشا، لكنها تكتسب صيغة متحولة، وكأننا أمام شبكة من المعاني على القارئ تتبعها، فهي تحضر حبيبة ثم أما ثم وطنا، وتتداخل الشفاه مع شواهد القبور.
فحضور الأنثى يطغى على اللغة التي تحاول استحضارها، لكنها تعجز عن تكوينها في ظل الشتات الذي يعيشه الشاعر في وطن يتمزق وتتلاشى تفاصيله تباعا وفي اغتراب يزيد المسافة بينه وبين المكان وذاكرته بعدا عنه.
في القسم الثالث من الديوان وبعنوان “رصاصات طائشة” يحضر الموت بظله الثقيل، ونرى الشاعر الشاب يستحضر تفاصيل المكان وتضاريسه في محاولة لإحيائها، بعد أن حلّ الموت فيها، حيث يمكن أن يختزل حضوره بأدق التفاصيل وأكثرها اعتيادية.
يقول أحمد باشا: “البلاد التي تغوي ضحاياها، لا تعرف شكل أجسادهم، لم تدثر جوعهم يوما، البلاد نفسها أصغر مما سيرسمه الطفل على المقعد المهترئ أمامه، قبل أن يغفو، أو يموت”.
وداع الذاكرة
يعود الشاعر أحمد باشا إلى نجوى ذاته في النهاية، حيث تتكـثّــف الجمل الشعرية ليحضر ما يفقده تباعا، كأنه يشرّح تأثير الغياب والموت على نفسه، وعلى جسده وعلى رؤيته لما حوله، كأنّه يودّع ذاكرته ويحاول حفر تفاصيلها في اللغة التي تضيق أحيانا عمّا يحدث.
فالشقي يفقد أماكنه، يفقد التفاصيل التي اعتاد ترويضها والاستكانة إليها في لحظات صحوه، فينعكس ذلك على بنية لغته، لتصبح أكثف وأكثر قدرة على التعبير.
وكأنّ الذاكرة مشتتة لا تستطيع قصيدة واحدة حملها، فهي أقرب إلى نبضات، كل منها يعيد رسم مشهد من حياة الشاعر الشقي، الشاعر الذي يشهد الانهيار بعينيه ويقف محاولا إعادة بهرجة المكان لا لشيء، بل ليحفظ ذكرياته ولغته.