أحمد سعيد نجم: أكتب حكايات اللاوعي

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

أوس داوود يعقوب

 

ينطلق القاص الفلسطيني أحمد سعيد نجم بحديثه معنا عن مجموعته القصصية “ساحة عصفور” الجاهزة للنشر، مبينًا أن هموم البشر، أينما كانوا، متقاربة، كي لا أقول متماثلة، وما يختلفُ هو طرائقهم الخاصّة في التعبير عن تلك الهموم. وعليه فلكلّ قصة قصّةُ يمكن أن تروى عن هذا الإلحاح الذي تصارعنا معه. أمّا لماذا كتبَ المبدع عن هذا الأمر ولم يكتب عن ذاك، فلذلك ارتباطٌ بأجوائه، ومخزونه، ومستوى تطوّره الفنيّ، ومنسوبِ حساسيته.

مضيفًا: بوجه الإجمال أكتبُ من أجواء ما عِشتُهُ وما قرأتُه وما سمعتُه، وما ترسّب في أعماق لاوعيي من حكايات تظهرُ الآن، وليس قبل ذلك، وليس بعدَه. وما أراهُ أهلًا لأن أكتبَ عنه قد لا يثير، بالضرورة، اهتمام كاتبٍ آخر، والعكسُ صحيح. وربما، بالمثل، لا يثيرُ اهتمام القارئ العاديِّ. والمهمّ في رأيي، وقبل أن نتحدّث عن ذلك الذي يُملى عَلينا ما نكتبُهُ، هو كيف تجلّى هذا الذي كتبناه، وكيف تمايزَ عن غيره من الكتابات.

 

شاطئ السردين

 

ونسأل نجم عن حكاية ولادة أول قصة كتبها ومتى تم نشرها؟ وماذا كان موضوعها؟ فيجيبنا: يحدثُ، مثلًا، أن تكون مجتهدًا في دروسك في المرحلة الثانوية، ولنقُل تحديدًا في مادّةٍ تُدعى “الإنشاء”، فيقترحُ عليك أحدُ الأساتذةِ أن تلتفتَ إلى مواهبك الكتابيّة، لأنّ في داخلك مشروعَ كاتبٍ. وبالطبع فليس بمقدورٍ أحدٍ أن يتحوّل إلى كاتب بمجرّد أن ننصحه بذلك. إذ لا بُدّ أن تكون بالحقّ بذرة الكاتب. ثمّ، من مثل هذا هراء هذه البداية، أو غيرِه تبدأُ أولى القصص، وكان ذلك أواخر الستينات من القرن الماضي. ولقد كتبتُ بعدها الكثيرَ من القصص، ثم مزّقتُها. لا بل لقد فقدتُ، أثناء خدمتي الإلزامية، فقدًا تامًّا مجموعة قصصية أولى، كنت قد رضيتُ عنها، في حينِهِ، وجمعتُها داخل “كلاسّور” أنيق. أما تاريخ ظهور أول قصة منشورة لي فكان عام 1979، وهو عام ظهور مجموعتي القصصية الأولى “شاطئ السردين المعلّب” . وكان نَشرًا للمجموعة ككّل، لا لقصّة بعينها.

 

وأيًّا كان تقييم النقد الأدبي الآن لتلك المجموعة إلاّ أن صدورها كان، في حينه، مهمًّا جدًّا بالنسبة إليّ. فقد وضعني على السكّة الوعرة وضعًا لا فكاك منه، فكان أن استقلّت من مهنة التعليم وانخرطت انخراطًا تامًّا في أجواء صحافة الثمانينات، الفلسطينية والسوريّة. وهي أجواءٌ قادتني للتعرُّف على العديد من بلدان العالم.

 

 

ساحة عصفور

 

وعن رؤيته لتطور كتاباته ما بين المجموعة القصصية الأولى “شاطئ السردين المعّلب” ومجموعته الجاهزة للنشر “ساحة عصفور”، وهل يراها تطورًا أصلًا أم تراكمًا؟ يقول: إذا استثنينا فترة الثمانينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي انخرطتُ فيها، حتى العظم، بالعمل الصحفي، والصحافة الأدبية الفلسطينية بوجه الخصوص، فإنّني بالإجمال كاتبٌ مُقِل. فقد يحدثُ لي أن أستغرق لسنوات في قراءات من طبيعة خاصّة في التاريخ، أو الفلسفة، وبالأخصّ الفلسفة، التي لا غنى عنها إن أردنا أن نفهم النقد الأدبي الحديث.

وأمثال تلك القراءات قد تجرفني، ومن طبعي أن أنجرف للشّيء كما لو أنني قد خُلِقْتُ من أجله، ومن طبعي، أيضًا، أن أقف في منتصف الطريق كي أقول لشيءٍ ما كفى. ومثلُ ذلك الاندفاع الجارف، أو التوقّف المباغت، يحدث بحيث أنه ينسيني تمامًا أنني إنما ابتدأتُ ككاتب قصة قصيرة، وأن عِلَيَّ أن أعود إلى سكّتي الأصلية. وعندما يحدثُ مثل ذلك الهاتف المفاجئ تراني أعود مجدّدًا إلى ذلك الفنّ المضني.

وعندما نتحدثُ عن مجموعة أولى صدرت أواخر السبعينات، وثانية صدرت أوائل التسعينات، وعن ثالثة قد تصدر هذا العام، عام 2016، ففي قولنا ذاك إشارة، من حيث المبدأ، إلى أن ثمة فترة زمنية مرّت، اكتسب الكاتبُ خلالها عمرًا إضافيًا، وتجربة وقراءة إضافيّتين، أما إذا ما كانت مجموعتي العتيدة، التي لم ترَ النور بعد، ستشكّل إضافةً أم لا بعد نشرها، فذلك متروكٌ للقارئ وللناقد، وهما، وليس أنا، مَنْ يقول ما إذا كان ما يقرأه في الكتاب الجديد مجرد لغو أم أنه إضافة حقيقية. ولو أننا نكتب لأنفسنا فقط لكان لنا قولٌ آخَر!

 

 

الشكل واللغة

 

وعن أبرز الشواغل التي اشتغل عليها في مشروعه السردي؟ وكيف انعكس الشتات على نتاجه الأدبي؟ يقول مُحدثنّا: يحكُمُني في كتاباتي أمران، هما في حقيقتهما أمرٌ واحدٌ، تجويدُ الشكل، وتجويدُ اللغة السردية بحيث تقتربُ كثيرًا من لغة الشعر. وقد يرى البعضُ أن هذا الأمر ربما يتمُّ على حساب الحكاية التي يصعبُ تبيُّنها أحيانًا فيما أكتبه من قصص. أقول ذلك وأنا واعٍ تمامًا لإمكانية أن تنزلق الكتابة أثناء ملاحقتها للجميل إلى شكلانيةٍ بغيضة لا تقول في النهاية شيئًا. كيف أقول ما أنوي قوله على نحوٍ جميل فذلك المأزق الذي أسعى دومًا كي أنجو منه.

 

أما موضوع الشتات فقد تفتّحت أعيننا عليه. وما نزال، ومعنا الأمّة العربية قاطبةً، نعيش نتائجه الكارثية في حياتنا، وفي وعينا لأنفسنا. وفي المجموعتين السابقتين لي كان الشتاتُ حاضرًا بقوّة. وهنا، في المجموعة الجديدة المفترضة حاضرٌ في قصة “ساحة عصفور” التي أعطت اسمها للمجموعة. ولأن تلك القصة تتحدّث عن الأيام الأولى لوصول الفلسطينيين إلى دمشق فإنك يندر أن تَمُرَّ على سطرٍ إلا وفيه تذكيرٌ بأن أبطال القصة فلسطينيون، ومقتلعون من ديارهم، وأنهم وسط مسعىً إنساني عميق للانزراع من جديد، وسط تربةٍ جديدة. وحتى في باقي قصص المجموعة فإن جميع الأشخاص الذين كانوا في ذهني وأنا أحوّل حيواتهم إلى قصص هم فلسطينيون، حتى لو لم تكن في النصّ إشارات صريحة إلى مثل ذلك.

 

لا بل إنني أعتقدُ جازمًا أن مثل تلك الإشارات المباشرة كانت ستكون شَطَطًا وطنيًّا لا معنى له، في واقعٍ عاش فيه الفلسطينيون كأبناء حقيقيّين لسوريا، وتقاسموا مع إخوتهم السوريين حُلْوَ الحياة ومُرّها. ما الذي كان سينضاف، مثلًا، إلى قصتي “البخار الآدميّ” والمنشورة في عدد مجلة “الجديد” الخاصِّ بالقصة القصيرة في العالم العربي، لو كنتُ قد أشرتُ إلى أن بطلها فلسطيني؟ لا شيء كان سينضاف. فما حاجة القصة إذن إلى شيءٍ لا يضيف شيئًا. فسؤال الهوية يصبح مُلحّا عندما يقعُ في تعارضٍ مع الهويات الأخرى. أو عندما يُنتِجُ الانتماءُ لهويةٍ ما مأزقًا أنطولوجيًّا (وجوديًّا) لصاحبها. فالعامل الفلسطيني الذي يعملُ، على سبيل المثال، في الشركة الخماسية لصناعة الأقمشة في دمشق، مسكونٌ بفلسطين، ولكنه مسكونٌ أيضًا بنتائج الانتخابات العمالية في شركته، تمامًا مثل السوري الذي وإن كان مهتماُ بنتائج تلك الانتخابات، إلا أنه بالمثل مسكونٌ بالهمّ الفلسطيني. والخلاصة المُرّة في هذه الأيام أن تلك التوليفة النبيلة، أقصدُ: السوريَّ-الفلسطينيَّ، والفلسطينيِّ-السوريَّ تخسرُهُا الآن كُلٌّ من فلسطينَ وسوريا وتربحُهُ أوروبا!

 

 

غواية الكاتب

 

بالعودة مع القاص الفلسطيني أحمد سعيد نجم إلى مرحلة البدايات سألناه عن الأدباء والكتاب الذين تأثر بهم والذين كانوا مصدر الإلهام له فأجابنا: عَليّ الاعترافُ، أوّلًا، بأنني، ومنذ نعومة أظفاري كنتُ، وما أزال حتّى الساعة، قارئًا نهمًا. وقد توزّعت قراءاتي على مجمل العلوم الإنسانية، وبخاصّة في مضماري الأدب والتاريخ. ولقد قرأت للكثيرين، وأحببتُ الكثيرين من الكتّاب من شتّى الملل والبلدان والمشارب. ولم أسمح، حتى يوم أن كُنتُ، في عنفوان قناعاتٍ فكرية وسياسيّة معينة، لقناعاتي تلك أن تمنعني من البحث الدائب عن الجميل حيث يُوجد. وواحدٌ هذه حاله يصعب عليه أن يحدّد مَنْ الذي أثَّرَ فيه دون سواه. جميع الكتّاب الجيّدين كان لهم يدٌ في غوايتنا. وفي جعلنا نقتفي خطواتهم في هذا الدرب الشائك المسمّى إبداعًا. طموحُنا كان كبيرًا، ونماذجنا العليا كانت أكبر. فَكُلُّ المبدعين آبائي، إذا جاز لي قولُ مثل ذلك.

 

ويحدثنا نجم عن مقومات القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، وعن السمات التي يجب أن يحملها الكاتب لإيصال ما يريد، فيقول: أنا شخصيًا لا أميل إلى مثل تلك التقسيمات في مجال الحقل الواحد، أي حقل السرد. القصة هي بالأصل حكاية قد تنتهي بعد صفحة، وقد يستغرق حكيُنا لها صفحات طويلة. والحدثُ يحمل في داخله بذرة موته التلقائي. فالمهم في القصة أن تترك لنباهة القارئ أشياء تدفعه لمواصلة القراءة. إشراكُ القارئ في لعبة اكتشاف المغزى النهائي ضرورية. وبحسب، “همنغواي”، في حديثه عن المقارنة بين القصة وبين جبل الجليد، فإن على الكاتب أن يحذف من قصته ما يعرفُ أن القارئ يعرفه. وبعد ذلك، فهنالك، كما يقولون أكثر من 500 طريقة لرواية القصة الواحدة.

 

الأمر الذي يعني أن كل شيء في القصة؛ طولَها، ومنظورَها، وما تريد إيصالَه لنا، كل ذلك قد يختلف من كاتبٍ إلى آخر. وعندما نقرأ قصة، ونعتقد بأنها لا يمكن أن تُكتَبَ إلا كذلك، فذلك لأننا قرأناها كذلك. وربما لو كانت قد جاءتنا في الأصل على كيفية أخرى لقلنا أيضًا القول ذاته. وهنالك، أيضًا، ما يشبه الإجماع بأن القصة كلّما كانت أقصر فهي أكثر صعوبة. ولكن كونها أكثر صعوبة لا يجعلها أكثر أهمية. ولأسبابٍ يطولُ شرحها فإن الرواية أهم بما لا يقاس من القصة القصيرة.

 

 

تجديد الأمل

 

وحول رأيه فيما يُشاع من أن النقد الأدبي العربي الحديث اليوم في وضع مأزوم؟ وأن النقاد العرب المعاصرين لم يستطيعوا أن يبلوروا نظرية خاصة في النقد الأدبي العربي، وهل أعطى النقد تجربته الأدبية حقها؟ يوضح صاحب “مفترق البيّارات” (1991) أنه عندما ينشُرُ أحدُنا روايةً أو مجموعةً قصصيةً أو ديوانَ شعرٍ فإنه يتوقّعُ أن يقرأ نقدًا عن ذلك الذي أصدره في الصحف والمجلاّت المتخصصة بمثل تلك الأمور. خُذ مثلًا المقالات النقدية الرائعة التي تركها لنا الشاعر “ت. س. إليوت” تجد أن معظمها كُتِبَ في الأصل كمقالات في الصحف.

 

وكُتُب النقد المتخصصة لا تأتي إلا متأخّرة. عندما يكون الكاتب قد شبعَ من الشهرة أو من الموت. وهي تميلُ في العادة لأن تكون جامعةً بأكثر مما هي ناقدة. وأدبنا ونقدُنا بحاجة إلى أمثال تلك المجلاّت ذوات المشاريع. المجلات التي تسعى لتوحيد الرؤى، وتسعى في الوقت ذاته إلى صيانة حقّ الاختلاف. والآن وفي ظلِّ غياب مثل تلك المجلاّت المتخصصة، أقصد مجلاّت مثل “الأديب” و”الآداب” و”حوار” و”شعر” و”مواقف” و”الكرمل” و”القاهرة” و”أدب” و”نقد” وغيرها، في غياب مثل تلك المجلات، وفي ظلّ اختفاء الملاحق الأدبية من الصحف اليوميّة فإنك ستدرك حجم الإهمال الذي يُقابَل فيه إنتاجُنا الأدبي الحديث. والأمل في هذه الأيام معقودٌ على مجلّة “الجديد” التي تصدر من لندن، وفرحتُنا بتلك المجلة لا ينبغي لها أن تُغيّر شيئًا من قناعتنا الراسخة بالمَثَل الذي يقول إن زهرةً واحدةً لا تصنعُ ربيعًا.

 

وعن ملاحظة النقاد حول ازدياد ابتعاد الكثير من الأدباء الفلسطينيين بشكل خاص عن الموضوع الفلسطيني في الآونة الأخيرة، وتقوقعهم أكثر حول ذاتهم استنادًا لفكرة أنه “لا أدب حقيقي خارج الغوص في الذات”. يرى أحمد.س.نجم أن الابتعاد يعني أن المبتعد اتخذ قرارًا بأن ينأى بنفسه عن محيطِهِ. وهذا التصوير للأمور مُجافٍ للموضوعية. ذلك أنك ترى الكاتب، في قرارة نفسه، كالشحّاذ يستجدي الموضوعات أين يجدها. والصحيح أن الموضوعات هي التي تبتعد، وتغدو أكثر إشكالية، على نحوٍ يستدعي معالجات مبتكرة. وقد يكون أحد المهارب من ذلك الوضع الإشكالي أن يغوص الكاتب في أعماق ويخوض معها نقاشًا هادئًا أو عنيفًا. والكُتّاب الفلسطينيون لا يعيشون في مجتمعٍ واحدٍ كي نقولُ إن عليهم الالتفات إلى مشاكله، أو مشاكلهم في داخل ذلك المجتمع الواحد. وكلنا يعرف أن هنالك، في هذه الأيام، الكثير من الكتّاب الفلسطينيين، الموهوبين حقيقةً، والعالقين، بنتيجة هذا الشيء الأليم الذي يحدثُ في سوريا، على حدود الدُوَل.

 

فما الذي سيُعبِّرُ عنه هؤلاء؟ وهل الكاتب آلةٌ ليس إلاّ لتفريخ القصص أو القصائد التي لا تعالج غير الهمّ الوطني. وبالمقارنة، يبدو المجتمع الفلسطيني في الداخل الفلسطيني أكثر ثباتًا، ومتاعبه أكثر وضوحًا، من غيره من التجمّعات الفلسطينية. ومع ذلك فإنه فوق فوهة بركان. لا تعرف متى يشتعلُ ذلك البركان فيصبح للفلسطينيين هناك وقائع غير تلك التي نحكي عنها الآن. والحقيقة بِعُريها الواضح أنه ما عاد للفلسطيني ملاذ روحي واحد يلجأ إليه في وقت الشدائد. لا السلطة الوطنية الفلسطينية ولا أيُّ تجمّعٍ فلسطيني ذي تماسك بقادرين على فعل شيء بإزاء محنة مئات ألوف الفلسطينيين – السوريين، الذين فقدوا في أيامٍ قليلة ما راكموه طيلة عقود.

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى