أرجوحة أحمد شاهر ‘تدنو وتعلو فوق خارطة المنى’

الجسرة الثقافية الالكترونية
أحمد فضل شبلول
تأخر الشاعر أحمد شاهر كثيرا في إصدار ديوانه الأول الذي حمل عنوان “الأرجوحة” وتنوعت قصائده بين الشكل العمودي أو البيتي والشكل التفعيلي، كما تنوع طولها بين القصائد متوسطة الطول والمقطَّعات القصيرة.
ولعل عنوان الديوان “الأرجوحة” للشاعر السكندري الذي تخطى الستين عاما، يعبر تماما عن موقف الشاعر ونظرته للحياة والناس، فكما تعلو الأرجوحة وتهبط، وتؤرجح راكبها، وتعلو وتدنو، كذلك نرى مضامين قصائد ديوان أحمد شاهر التي يقول في إحداها:
كانت لنا أرجوحةٌ
عند السحاب
تدنو وتعلو فوق خارطة المنى
تتأرجح قصائد الشاعر إذن بين السمو والعلو والطهر والنقاء والرفعة، وبين الشقوة والكآبة والدموع والغدر والكآبة والخيانة، وهكذا تتأرجح الحياة، ويتأرجح الإنسان المعاصر بين شد وجذب، وظلمة وضوء، ونار ونور. يقول الشاعر في مقطوعة “شقوة نحيا”:
شقوةً نحيا وتحيانا الكآبة ** فارتمي في دفء أحضان الصبابةْ
وارشفي من ثدي أيام مضتْ ** رضعةَ النور المحلَّى بانتحابهْ
والتأرجح هو التحرك من جهة إلى أخرى، والتأرجح بين أمرين هو التذبذب بينهما. وفي التأرجح اهتزاز وصعود وهبوط.
ومن أضداد التأرجح نجد الاسْتِقامَة, والإعْتِدال, والإِنْتِظام, والثَبات.
وفي لسان العرب؛ الأُرْجُوحَة والمَرْجُوحة: التي يُلْعَبُ بها، وهي خشبة تؤْخذ فيوضع وسطها على تَلٍّ، ثم يجلس غلامٌ على أَحد طرفيها وغلامٌ آخر على الطرف الآخر، فَتَرَجَّحُ الخشبة بهما ويتحرّكان، فيميل أَحدهما بصاحبه الآخر. وتَرَجَّحَتِ الأُرْجُوحة بالغلام أَي مالت. كما ظهر نوع آخر من الأراجيح كالتي نراها في الأعياد والموالد، والاحتفالات الشعبية، يركبها شخص واحد ويلف بها من أسفل إلى أعلى، وقد تدور به دورة كاملة غير مرة، فيشعر باللذة والرفعة قبل أن يصاب بالدوار من كثرة الدوران.
كل هذه المعاني اللغوية والتصويرية وغيرها نجدها ترتدي بردة الشعر في قصائد ديوان “الأرجوحة” للشاعر أحمد شاهر.
وقد فطن الناقد والشاعر د. مختار عطية إلى كل هذا وأكثر في دراسته القيمة الملحقة بديوان “الأرجوحة” والتي احتلت نصف صفحات الكتاب (البالغة 132 صفحة)، وجاءت بعنوان “منظومة الطهر وديناميات الإبداع في شعر أحمد شاهر.. دراسة في خصوصية النص” مبينا أن الطهر هو الخطاب السائد والرائد في هذه المجموعة الشعرية من شعر شاهر، مع بروز السخرية من ألاعيب الزيف ومجاجة العهر.
وبين الطهر والعهر، والصدق والخيانة، والإيمان والكفر، يفتح الشاعر آفاقا لا متناهية من الفضاءات الشعرية التي تتوشح بدوال تراثية وثقافية عميقة مشيرا من خلالها إلى بلقيس، وأبي جهل، وداوود، وسالومي والمعمدان، وزرقاء اليمامة، وغيرهم من رموز التراث العربي والإسلامي والإنساني.
ولعل صورة تأرجح المعاني والدلالات في النص الواحد ما بين الصدق والخيانة على سبيل المثال تتجسد في قصيدة “المعمدان” التي يقول فيها الشاعر:
عُقبان هذا العصر قد رصدوا جناحَكَ
فاحترسْ
واحذرْ هوى الخُبْثِ الملوَّنِ
بابتساماتِ الأفاعي
إنها قد هيأتْ لكَ رقصةَ الموتِ الأخيرة
بين حاشيةِ الخيانةِ
إذ تقدَّم منهمو الآنَ الطبقْ
وعليه رأسُكَ ..
في جوارِ خاتمك الذهبْ
وفي قول الشاعر “عقبان هذا العصر” ما يحيل إلى عصرنة قصة سالومي والمعمدان، أو توظيفها توظيفا عصريا منطلقا من أجوائها التراثية، ومضيفا عليها حمولة أو رؤية جديدة يبدؤها بقوله:
الويلُ لكْ
إن حلقت منك الأغاني هائمات
بين أسرار الحلك
أو دفَّ بين ضلوعك البيضاء نبض
يهزج الأفراح في قصرة الأميرة
فوق أجنحة الألق
كنت الملكْ.
لا تخلو قصائد ديوان الأرجوحة على قلتها (21 قصيدة ومقطعة) من أغراض الشعر القديم مثل الأخوانيات والرثاء، وفي هذين الغر ضين لا يتخلى الشاعر عن قاموسه الخاص الذي نحته من عالم الطهر والنقاء والسحر والأنوار والسنا، وفي مقطوعة “شكرا لأساتذتي” على سبيل المثال يقول:
جاءوا على جدب النهى بخطى الندى ** فاستُنبتتْ من روحنا الأفياءُ
حتى استظلت كل نفس بالسنا ** نورا .. تغلغل في الشقوق ضياءُ
حتى توهج في اللسان منابرٌ ** فاستوقدوا حبا وساد وفاءُ
أما في رثاء أو تأبين أستاذه الشاعر الراحل أحمد السمرة، فيقول:
لأي دربٍ تراك اليوم ترتحلُ ** وأنت للنور جفن .. منه نكتحلُ
لقد تنامى النوى جمرا يحرقنا ** فيرمد الشوق حزنا ثم يشتعل
أتوق للدفء مذ غادرت يا أبتي ** فالشعر أضحى صقيعا لفه الملل
ولعلنا نلاحظ تكرار “النور” في هاتين المقطوعتين، وحضور الندى والسنا والأفياء والضياء والحب والوفاء والشوق والدفء، وهو المعجم النوراني الذي ينير “ملحمة الطهر الشاهرية” ـ حسب تعبير د. مختار عطية.
المصدر: ميدل ايست اون لاين