أزمة منتصف عمر الرجل المهجور.. قراءة في (طريق الحرير) ليوسف ضمرة / د. غسان إسماعيل عبد الخالق (الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

يعد يوسف ضمرة، من أبرز كتّاب القصة القصيرة في الأردن والوطن العربي. وقد أصدر حتى الآن تسع مجموعات قصصية، هي على التوالي: العربات / 1979، نجمة والأشجار / 1980، المكاتيب لا تصل أمي / 1982، اليوم الثالث في الضباب / 1983، ذلك المساء / 1985، مدارات لكوكب وحيد /1988، عنقود حامض / 1993، أشجار دائمة العري / 2002، طريق الحرير / 2011… التي مثّلت خلاصة مشروع تفرغه الإبداعي برعاية وزارة الثقافة الأردنية. كما أصدر رواية قصيرة بعنوان (سحب الفوضى) في عام 1991. وله مساهمات أخرى على صعيد الترجمة وأدب الأطفال وكتابة المقال الثقافي والسياسي. 

اتسم أسلوبه القصصي، بالواقعية التشيكوفية، فهو يجنح، أحيانًا، إلى الرمزية وشيء من الفانتازيا، لكنه، ومهما بلغت حمولة الرمزية أو حمولة اللامعقول في سرده القصصي، يظل مشدودًا بقوّة إلى الواقعية الرزينة، بهواجسها العتيدة؛ المكان المضاد أو الكادح، الزمان المضاد أو المخاتل، الإنسان المطحون أو الواهم. ومن الملاحظ اعتناؤه الشديد بالاقتصاد اللغوي في كل ما يكتب من قصص، فهو حتى عندما يحلّق عاليًا في سماء الرمزية أو اللامعقول، يظل حريصًا على عدم الوقوع في مصائد فائض اللغة أو الشعريّة المفتعلة.

***

ما الذي يريد أن يقوله لنا يوسف ضمرة، في مجموعته القصصية التاسعة التي تدثّرت بعنوان لافت: “طريق الحرير”؟! ربما ينبغي التنويه أولاً بحقيقة أن طريق الحرير –وهي التسمية التي أطلقها الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشتهوفن في القرن التاسع عشر- مثّلت شبكة من الطرق البرية والبحرية التي كانت تمتد من الصين حتى تركيا، وشهدت آلافًا من القوافل والسفن التي كانت تنطلق في الاتجاهين دون توقف، وكان لها دور حيوي في بزوغ وازدهار العديد من الحضارات القديمة. هذا ما حدث تاريخيًا، لكن ما حدث في القصة المفتاحية، على درجة كبيرة من البساطة والإيجاز والبلاغة المؤلمة؛ لقد ابتاع السارد قطعة من القماش المطرّز التي تصور مشهدًا من مشاهد طريق الحرير أثناء زيارة قام بها إلى الصين، ثم راح يتأملها بعد عودته، مرارًا وتكرارًا، إلى الحد الذي دفع بأحد أصدقائه إلى السخرية منه. فما كان منه، إلا أن طوى قطعة القماش وأودعها أحد أدراج المكتب، ثم أغلقه بالمفتاح. وكأنه يسجن في الدرج آلاف السنين وملايين الرحّالة والتجار والمغامرين.

إذا أخذنا بعين الاعتبار الشديد، حقيقة الفارق الزماني والمكاني والإنساني، فإن حياة كل واحد منا، مرشحة للطي في دُرْج مُعتم، كذاك الذي احتضن تاريخ طريق الحرير؛ فحياة كل واحد منا، ومهما بلغ ضجيجها، لا بد أن تفيء إلى العتمة في لحظة ما، قد تكون آخر الأربعينات من العمر، ولكن بعد أن تكون قد اجتازت آخر وأقسى مخاضاتها؛ مخاض أزمة منتصف العمر التي يصفها السارد في قصة (كذب) على النحو التالي: (بعد أن أخبرني الطبيب أنني أعاني من اضطرابات منتصف العمر … لن أتوسع في شرح هذه الاضطرابات التي أعاني منها. وأكتفي بالإشارة إلى الخوف والاستغراق في أحلام اليقظة والكذب. ازدادت أكاذيبي وكبرت،  وكبر خوفي معها، ولم يبق فضاء إلا وجاسته أحلام اليقظة. فبدأت أشعر بالسعادة، الأمر الذي جعل الآخرين يسألونني عن سرها. وحين أقمت علاقة متينة بامرأة شابة، أخبرتها عشرات المرات أنني أحبها. وأراها كل ليلة في الحلم، فبدت سعيدة هي الأخرى. ومنحتني ما لم أجربه في خلال أي علاقة سابقة مع غيرها من النساء. لا أقصد الجنس ذاته، بل ما رافقه من فرح طفولي مشترك بيننا). 

***

إن أزمة منتصف عمر الرجل الوحيد، تكاد تمثل محور المجموعة القصصية، إلى الحد الذي تتركز معه كل قصص المجموعة حول رجال مهجورين ومتروكين ولا يتمتعون بالمجال الاجتماعي والإنساني الحيوي المعتاد. يمكننا أن نلاحظ ذلك في قصة (ظلي) التي تمثل حوارًا محتدمًا مع القرين، وفي قصة (المرآة) التي تمثل حوارًا ساخنًا مع إشكالية تقدير الذات، وفي قصة (سانشوبانزا) التي تمثل محاولة لتحرير الذات التابعة من الذات المسيطرة، وفي قصة (متاع العابر) التي تمثل محاولة لتأكيد شباب الذات عبر التواصل المتوهم مع نساء شابات، وفي قصة (قمر أزرق) التي تفصح عن رجل منبوذ يعاني حالة متقدمة من الذّهان والانفصام، وفي قصة (القصيدة) التي تتمخض عن شاعر تحرّر من أسر ملهمته، وفي قصة (على أهبة العويل) التي ربما كانت الأكثر إفصاحًا عن ثيمة الرجل المقصود، فهو: (يفكر في احتمالات عدة. يستسيغ بعضها ويرفض الآخر. لكنه لم يفكر ولو مرة واحدة في سؤالها، أو اللحاق بها، فثمة خطوط حمر لا ينبغي لرجل عاقل في الخمسين أن يتجاوزها، حتى لو كان وحيدًا!). وفي قصة (الأخوة) التي تمثل أقصى ما يمكن تخيله على صعيد الرجال المنبوذين، حيث نعيش مع ثلاثة أشقاء ولدوا معًا وعاشوا معًا وعملوا معًا، يأكلون ويشربون معًا، ويموتون معًا!!!

صحيح أن هناك قصصًا تمردت على هذا السياق الذكوري المتوحد والمأزوم شكلاً، لكنها –ضمنًا- لم تبتعد كثيرًا، ففي قصة (حفر على الخشب) ثمة رجل متزوج يعيش مع أسرته، لكنه يعاني حالة متقدمة من الشعور بالدونية واتهام الذات. وفي قصة (شارع الموسيقى) ثمة رجل متزوج لكنة يعيش أيضًا حالة من النكوص المرضي باتجاه الطفولة. وفي قصة (فلنتاين أحمر جدًا) ثمة رجل متزوج رومانسي، لكنه وفي ضوء ردود أفعال زوجته غير الرومانسية يجد نفسه مضطرًا لخيانتها كي يستمتع بطقوس العشاق. وفي قصة (لعبة السيد بيكيت) ثمة إعادة إنتاج قصصية لمسرحية (بانتظار غودو) يضطلع فيها الرجل المهجور والرجل الموعود بالدور الرئيس، وتبدو فيها المرأة مجرّد ظل ثانوي لشخصية الرجل.

***

كل ما تقدم من مسح أفقي لسطح (طريق الحرير)، لا يغني بحال عن سبر عمودي للقصتين الأكثر نضوجًا وبراعة في المجموعة، وأعني بهما: قصة (ما استكملته المخيِّلة) وقصة (رجل خشبية)؛ فالأولى تحكي بصوت السارد مأساة رجل في الخمسين، يجد نفسه فجأة في مواجهة صديقته الأربعينية التي قررت وضع حد لعلاقتهما، الأمر الذي يشعل مخيلته بهواجس قاسية: (ما الذي تفعلة المرأة بعدي الآن؟ هل أحبت أحدًا ما؟ هل تتذكرني؟ هل تتمنى العودة مثلاً؟ هل هي تشعر بالحزن والأسى كما أشعر؟). وما يزيد هذه الهواجس لهيبًا، أنه يعرف تمامًا، حقيقة اتساع هامش الفرص أمام صديقته الأربعينية التي هجرته، وحقيقة ضمور هامش الفرص أمامه: (بالنسبة لواحد مثلي، وصل الخمسين، وتجاوز منتصف العمر بكثير، فإن مثل هذه التصورات كارثية بالمعنى المطلق، فاستبدال العلاقة أمر أكثر صعوبة وتعقيدًا بعد هذا العمر. وليس مثلها هي التي ما زالت في بداية الأربعينات فقط، ما يؤهلها لبناء علاقة جديدة بسهولة ويسر). لكن ما هو أهم من هذه الاعترافات تلك الاستبصارات والتأملات الشاردة العميقة التي يقتنصها السارد على نحو عفوي، فنراه يستطرد قائلاً: (كأي قصة حب تنتهي، ثمة ذكريات، تكتسب بعد انتهاء العلاقة معاني لم تكن موجودة في الأصل، تصبح الذكريات علاقة حب جديدة، مغايرة للأولى تمامًا). ومع أن القصة تنتهي بإقدام السارد على قتل حبيبته السابقة بمسدس مائي، إلا أن هذه الحبيبة التي ترفض الردّ عليه بالمثل وتكتفي بلمس كتفه، تقوم بإعدامه وجوديًا، أي أنها تبقي عليه جسدًا، لكنها –في الواقع- لم تخلف منه وراءها، إلا أطلال رجل خسر للتو آخر فرصة له في الحب.

وأما القصة الثانية (رجل خشبية)؛ فهي تحكي بصوت السارد أيضًا، مأساة رجل في الخمسين، يسكن وحده دارًا خاوية إلا من وعاءين لسلق الفول والترمس، ويسير على قدم سويّة وأخرى خشبية. ورغم كل ما يغرق به من وحدة وفقر، إلا أن مخيلة الناس لم تدخر وسعًا للإنعام عليه بكنز مزعوم يقبع في بيته. على أن رجله الخشبية التي بدت طبيعية تمامًا ولم تعقه عن المشي أو الحركة هي كل ما استحوذ على اهتمام وتفكير السارد:

(كان يتحرك بلا عصا، ويصنع القهوة والشاي، ويجلس قبالتي على مقعد خشبي مخلخل، ويتحدث في كل شيء، ويسألني عن أجواء الجامعة التي التحقت بها تلك السنة، لكنه لم يأت على ذكر رجله الخشبية ولو في شكل عارض. سألته مغامرًا ذات يوم ونحن نحتسي الشاي: 

قل لي يا جميل، لم لا تتزوج؟

ضحك من قلبه وقال:

أنا؟ يا ألله! أنا أتزوج؟

نعم…

قال جادًا:

ومن تقبل بي؟ رجل خشبية، وبائع فول نابت، وبلا أصل أو فصل… ثم افرض أنني عثرت على واحدة تقبلني كما أنا، فهل تضمن لي وأنا على مشارف الخمسين، كيف ستكون معي بعد سنوات؟ وحين أكبر أكثر؟ ماذا سأكون؟

قلت محاولاً تهوين الأمر:

يا سيدي … رجلك ليست معيبة أو شتيمة!

ابتسم كأنه أدرك أنني أجره إلى المنطقة المحظورة، وقال بلا مبالاة:

دعك من رجلي…)

أكثر ما يثير الدهشة في هذه القصة، أن السارد وإن حزن لوفاة صديقه الخمسيني، إلا أن اهتمامه انصب على متابعة مصير رجله الخشبية بعد وفاته، إلى الحد الذي اضطر معه لاقتحام منزله، فوجد الرجل الخشبية تستلقي على السرير، عارية وترتجف من البرد فألبسها أحد أكمام بنطال المتوفى، ورآها وهي تسترخي بعد أن كانت مثنية، ثم استغرقت في نوم عميق. 

لقد أعاد يوسف ضمرة في هذه القصة، إنتاج ثيمة القرين التي سبق له أن أنتجها في قصة (ظلي)، لكنها تبدو أكثر نضوجًا وإيلامًا، وأكثر واقعية، وبطبيعة الحال فهي أكثر رمزية، إذ أن هذه الرجل الخشبية، سرعان ما تختفي من المنزل، الأمر الذي يزلزل وعي السارد، لكننا نحن القراء الضمنيين، يمكننا أن نتوقع قيامها بمغادرة المنزل، بحثًا عن شخص آخر يحتاجها، حتى إذا توفي، انتقلت إلى شخص ثالث. بتعبير آخر: هي الثابت والأحياء متغيرون، هي المستمر والأحياء يموتون تباعًا، تمامًا مثل لوحة قديمة في بيت للإيجار، يسكنه أفراد وربما عائلات، بعضهم يقضي فيه سنين ويمضي، وبعضهم يقضي فيه نحبه، لكن اللوحة القديمة المعلّقة على الجدار، تظل مكانها شاهدة على كل ما يحدث.

***

وقد يكون من المفيد أن نختم هذه القراءة في (طريق الحرير)، باسترعاء انتباه القارئ إلى حقيقة اتجاه يوسف ضمرة لكتابة القصة / اللوحة، حيث أدرج خمسًا من قصصه العشرين تحت عنوان (لوحات)، وهي: أنّا كارنينا، طريق الحرير، ظلي، المرآة، سانشوبانزا، بوصفها هواجس فكرية وأحاسيس وجودية يمكن رسمها أو هي مرسومة فعلاً، وبوجه خاص (أنّا كارنينا) التي اعتنى السارد برسم لحظة انتظارها قبل وصول القطار بقليل، أي أنه لم يكن معنيًا بلحظة إقدامها على إلقاء نفسها تحت عجلات القطار قدر اعتنائه برصد ملامحها وانفعالاتها التي سبقت هذه اللحظة التراجيدية. و(سانشوبانزا) الذي اعتنى السارد أيضًا بإعادة الاعتبار إليه من خلال طمس صورة سيده دون كيخوته وتخليد نظرته الخاوية. فضلاً عن حقيقة اتجاهه أيضًا لكتابة القصة / الخاطرة، حيث أدرج خمس قصص أخرى تحت عنوان (قصص حب)، وهي: خيارات أخرى، كلام أزرق، القصيدة، ما استكملته المخيلة، على أهبة العويل، غوانتانامو، بوصفها استطرادات يمكن تخيل ما سبقها كما يمكن البناء عليها لاحقًا. وأخيرًا، فلا يسع الناقد المدقق إلا أن يلاحظ حقيقة ثالثة مفادها: اتجاه يوسف ضمرة إلى الإحالة غير المباشرة على مرجعيات أدبية عالمية، روائية ومسرحية، مثل سرفانتيز وتولستوي وبيكت.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى