أسماء شهاب الدين تعيد للشخصيات مجدها في

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

ممدوح فرّاج النابي

 

تدور المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة أسماء شهاب الدين المعنونة بـ«لو خرجت منّي»، والصّادرة عن دار النسيم بالقاهرة 2015، في إطار يعود بالقصة القصيرة إلى أصالتها المستمدة من جذورها الأولى حيث الانغماس في الهمّ العام بشقيه الاجتماعيّ والسياسيّ، والاهتمام بالبطل الذي تدور في فلكه الأحداث، وليس هذا على حساب التقنيات الحديثة للقصّة من تنوّع الرواة، واعتمادها مناجاة الذات، علاوة على ابتعاد اللّغة عن محسناتها وبلاغتها المسرفة، إلى لغة تعتمد دلالاتها على واقعها الذي تعبر عنه، فجاءت معبّرة، ومستوعبة أيضا للتكنولوجيا الحديثة وفضاءاتها وتوظيفها داخل بنائها، كما تعتمد المجاز في التشبيه الذي يكثر لديها، فتشبه الحاسوب «بكلب ميت على السرير»، أو من قبيل «كيتيم بلا مأوى»، و«ككسرات خبز ناشفة في صحن طعام ناشف»، و«مرتبك كنحنحة نوتة موسيقية قبل انهمار السيمفونية»، و«مجنونة كمشردي الشوارع» وغيرها…

 

استعادة الشخصيات

 

الملمح الأهم في هذه المجموعة، هو استعادتها لأهم عنصر من عناصر القصة القصيرة، في عصور ريادتها، ويتمثّل في استحضار الشخصيات بعد رحلة تغريب تعمّد كتّابها الدخول بها في طور الحداثة وما بعدها، فأزاحوها عن مكانتها لحساب أنواع أخرى. وتتنوّع الشخصيات بين الأم والطبيبة والمريضة والمعتقل والعاطل والابن والحبيبة والعاشقة وغيرها من النماذج الإنسانية الحيّة من لحم ودم، وليس كائنات من ورق، فتركز السّاردة من خلال هذه النماذج القصصيّة على تشابكاتها وصراعاتها مع واقعها المعقّد الذي ينتهي بها إلى وأد أحلامها، والانحراف عن المسار الطبيعي، وفي بعضها التفكير في الهجرة. وقد تأتي الشخصية كمروية عنها كما في قصة الوصايا العشر، والصمت. فالأولى تستحضر الابن وهي توصيه، والثانية تستحضر شخصية الحبيب المفتقد.

 

تتكوّن المجموعة من اثنتي عشرة قصة، يغلب على بنائها الطابع القصصي الطويل، وتتميّز عناوين المجموعة بالطول في بعض الأحيان، وتأتي العناوين كجزء من بناء القصة، أو في سياق جملة، دون أن تكشف عن محتوى القصة أو حتى تفسّره، أما بقية العناوين فهي لا تزيد عن كلمة أو كلمتين مثل: فتنة، الصّمت، العجلة، الوصايا العشر، ضماد لليائسين، السماء فقط. وهنا تأتى العناوين لتشير إلى دلالة القصة مرة، أو تشير إلى ملخص القصة مرة أخرى.

معظم القصص يهيمن عليها الرّاوي الغائب، وفي بعضها يعود إلى الأنا، وفي قصص الأنا تأتي كمونولوجات داخلية أو تداعيات نفسية. الرابط الجامع بين هذه القصص هو الإنسان وأوجاعه، سواء أكانت أوجاعا اجتماعية أم سياسية أم نفسية، ومسببها واحد هو الأوضاع السياسية.

في القصّة الأولى يبرز صراع جوهري بين الواجب والمشاعر، فالطبيبة النفسية التي تقدّم جرعات من المهدئات لمرضاها، ينتابها صراع داخلي بين ذاتها كامرأة ذات مشاعر تخفيها خلف الرداء الأبيض والابتسامة الفاترة التي توزعها على مرضاها وهي تقدم لهم/ لهن نصائحها وجرعات العلاج التي تصل إلى أقصى معدلاتها لتهدئة المريض، تفشل مع الأم الملتاعة لفقد ابنها بسبب الحرب، والآخر الذي بقي هناك وتخشى عليه من مصير الأول. وأمام حالة الأم التي لا تقوى المهدئات أو النصائح على علاجها تنغمس الطبيبة مع ذاتها، لنكتشف أن الأخرى لا تقل عن الأولى في الألم الداخلي مع الفارق، فتتمنى أن تخرج الأخرى.

 

في قصة «فتنة» تتناول السّاردة عبر ضمير السّرد الأنا مشاعر امرأة متقدة لزوجها إلا أنه لا يبالي بها، فتصدم باللقاء الذي أناب آخر عنه حين قدّم لها تحية باردة، أفقدتها لذة الاستمتاع باكتشاف المكان الجديد، فتبحث عن أسباب غيابه عبر خيالها الذي يفرط لها ويدخلها في موجة من التوهمات عن علاقاته وملامساته ومصافحته للنساء، وكأنها تأبى عليه أن يصافح أو يلامس كفا غيرها، تقدم الساردة نوعا من غيرة النساء على أزواجهن وهو ما يدخلها في حرب باردة مشتعلة «نار تحرق الدم وتأكل الأعصاب»، فتشعر وكأنّها «معطف علّقته بإهمال طيلة الصيف»، وإزاء هذا الافتقاد تلجأ إلى تعويض هذا الفقدان بالأمنيات حينا «ماذا لو أخذتك من يديك وخرجنا نهرول بعيدا؟» وبالخيال حينا آخر «(و) ركضنا بعيدا، ثم وقفنا نستريح تحت تلك الشجرة هناك قليلا، أشكو لك ألمي من لهاثي وتقطع تنفسي، فتضع يدك على صدري وتبتسم لي وحدي» ومع كلّ هذا تعترف أن التمني والأمل ذابا على يديه. القصة تلعب على مشاعر النساء المجهضة بأيدي الرجال، وكأنها جرس إنذار لنهايات مفتوحة أهمها هو الدخول في عالم الخيالات.

في قصة «الذبول البطيء لرجل المطافئ»، تعالج الكاتبة واحدة من أخطر القضايا في مجتمعنا هي البطالة وتبعاتها من حالة سأم وكفر بكلّ شيء، وهو ما يقود الشباب إلى تبني الأفكار المتطرفة على نحو ما راح يداعب بطل القصة وهو يشاهد الفيلم، ويبدي إعجابه بالقنبلة، القصة تلخص مأساة واقع يعيش فيه الشباب وحالة التناقض والطبقية التي تجعل من واحد لا يجد شيئا حتى ثمن حذاء الأديداس، وآخر يبدّد الدولارات من أجل البهجة، فاليأس الذي سيطر عليه يدفع بالفتاة الباحثة عن البهجة أن تسكب كوب الليمون وتغادره بعد أن أخبرها أنه ينتمي إلى فئة الشباب الذين «إذا ذهبوا للحفلات ذرفوا الدموع». القصة لا تقف عند مشكلة البطالة بل ترصد الواقع الاجتماعي الذي يقود الشباب إما إلى الانحلال أو الانغلاق.

 

 

الحرية والحب

 

في قصة «الولد الذي خبّأ الشمس في قميصه»، تعكس حالة المعتقلين التائقين للشمس/ للحرية، من شدّة الإغراق في ظلام الزنازين، القصة تحمل طابعا إنسانيا منحازا لهؤلاء المعتقلين. فالمدرّس القروي الذي تصادفت لجنته أنها في السّجن، يكتشف أنّها من طالب وحيد، ويحضر للامتحان لا للنجاح وإنما للرسوب، لينعم ولو قليلا بالشمس/ الحرية، القصّة تحمل في طياتها معنى سياسيّا رافضا لتلك العقوبات التي تخلق من هؤلاء المساجين، مشوّهين ومصابين بالاكتئاب، وفي الوقت ذاته تدين المعاملة الفظة التي يتعامل بها رجال الشرطة مع هؤلاء المعتقلين عبر صورة هذا الصول الذي منعه من استكمال الامتحان، أو بمعنى أدق منعه من أن ينعم بالحرية ولو قليلا، رغم أن ثمّة وقتا معينا للإجابة إلا أنه رفض أن يستكمله إلى النهاية، في إشارة إلى استبدادية السلطة وتعسفها، مستغلة نفوذها.

 

المشاعر المكبوتة هي ملخص قصة «رغم العيال والناس» التي تتناص مع أغنية لفيروز والتي تتخذها السّاردة خلفية للأحداث، فاللقاء الذي يحدث فجأة بينها وبين حبيبها السّابق، بعد جفاء، وقد تزوّج كل منهما وصار لهما أطفال، فرغم مرور السنوات إلّا أن جذوة المشاعر لم تخمد بعد، فما إن التقيا حتى تركت نفسها له، رغم كل الموانع التي تحول دون حدوث ما حدث من لقاء بينهما في الشارع ورغم العيال والناس، لكن رغبة الشوق كانت أقوى من الموانع.

 

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى