أشرف الصباغ يترجم بوشكين حياته ومصرعه وارتباطه بالماسونية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد الحمامصي
ما هي الأسباب التي أدت إلى مصرع بوشكين وكيف كانت حياته؟ هل راح ضحية حب زوجته لآخر؟ هل بحث عن مقتله بعد أن شعر بمحنة الخيانة؟ هل ارتبط بوشكين بالماسونية وهل قبله الماسونيون بينهم؟ وكيف كانت علاقته بقيصر روسيا نيكولاي الأول؟ هذه التساؤلات وغيرها من الجوانب الخفية في مسيرة شاعر روسيا العظيم بوشكين، يدور حولها الكتاب المؤلف من ثلاثة ملفات بأقلام ثلاثة كتاب هم: فلاديمير فريدكين، وم. أوسين، أ. فيليمونوف، وفسيفولد ساخاروف ترجمها الكاتب والمترجم د. أشرف الصباغ، وقد صدر الكتاب صدر هذا الأسبوع ضمن كراسات دار “روافد” بعنوان “بوشكين حياته ومصرعه”.
الكراسة الأولى بقلم فلاديمير فريدكين “ما هي الأسباب التي أدت إلى مصرع بوشكين؟ على ضوء وثائق من أرشيف دانتيس في باريس” ووفقا لفريدكين فإن هذه الوثائق التي تلقي الضوء على مصرع بوشكين “الوثائق عبارة عن الخمسة والعشرين رسالة التي كتبها جورج دانتيس إلى البارون هيكيرن خلال عشرين شهرا بداية من ربيع عام 1835.
لقد سافر المبعوث الهولندي لمدة عام واحد فى إجازة خارج روسيا، وأراد أن يستخدمها من أجل تَبَنِّى جورج دانتيس. وطوال عام كامل ظل الأب المستقبلي والابن يتبادلان الرسائل. وكان دانتيس في رسائله يتحدث عن أخبار بطرسبورج، وبالتالي سوف نتعرف على بطرسبورج البوشكينية بعيون دانتيس. وبالطبع كانت في مركز جميع الأخبار ـ قصته مع ناتاليا نيكولايفنا بوشكينا.
إن الأحداث التي يكتب عنها دانتيس في غاية الأهمية من أجل فهم الحالة الروحية للشاعر في ذلك العام المفزع بالنسبة له”.
يقول فريدكين “في المرحلة السوفيتية، كان موضوع مبارزة بوشكين يوجد في قبضة أيديولوجية قوية لوسائل الإعلام. وفي سنوات العشرينيات والثلاثينيات، كان من السائد أن بوشكين كان ضحية القيصر والدائرة الثالثة، وأن زوجة الشاعر كانت امرأة فارغة ومتهورة. وبعد سنوات الحرب أصبح بوشكين ضحية الأجانب الأمميين، وناتاليا نيكولايفنا ـ أمٌّ وزوجة مثالية، فهل من المعقول أن تعشق شخصا آخر، زد على ذلك أنه فرنسي؟ وبشكل عام، فقد أرادت السلطة أن ترغم بوشكين على خدمة نفسه، بينما كان بوشكين الوحيد، وكما هو معروف، يخدم الأدب الروسي وليس السلطة.
وهكذا، ففي 8 سبتمبر/أيلول عام 1833 وصل إلى سانت بطرسبورج نبيل الإليزيه وصاحب العقيدة الملكية الراسخة جورج دانتيس ومعه وصيِّه المبعوث الهولندي في البلاط الروسي لويس جيكيرن. جاء من أجل “اصطياد السعادة والرتبة”، ومن أجل أن يترقَّى في منصبه بسرعة.
ويكتب بوشكين فـــي 30 أكتوبر/تشريني الأول إلى زوجته من رحلته في بولدين “يبدو لي أنكِ بدأتِ تسيرين على طريق التدلل والغناجة. اسمعى ليس عبثا أن الغنج والدلال قد أصبحا خارج الموضة، بل ويعتبرا من علامات الحماقة وخفـة العقل، وليس فيهما ما يجدي. وأنتِ سعيدة لأنهم يركضون وراءك مثلما تركض الكلاب خلف كلبة، وعندما يرفعون ذيلها… إذن لديك ما يسعدك!.. فعندما يوجد الطست أو المذود فلا بد أن توجد الخنازير.
لماذا تهتمين بالرجال الذين يغازلونك؟ أنتِ لا تعرفين على من ستعثرين، ومن ستصادفين. اقرئي حكايـة أ. إيزمايلوف عن فوما وكوزما. لقد قام فوما بإطعام كوزما كافيار وفسيخ، فأخذ كوزما بعد ذلك يطلب الشرب، ولكن فوما لم يعطه. فراح كوزما يضرب فوما ضرب اللئام. من ذلك خرج الشاعر بتلك العظة الأخلاقية: أيتها الجميلة، لا تطعمين أحدا فسيخا إذا لم تكوني ترغبين في إعطائه ماء، وغير ذلك فمن الممكن أن تصطدمين بكوزما… أنا لستُ غيورا، نعم، وأعرف أنكِ لن تنحدرين إلى ما هو شديد الوطأة، ولكنك تعرفين كم لا أحب كل ما يفوح برائحة الآنسات الموسكوفيات”.
ويوضح “بالطبع فالحديث لا يمكن أن يكون دائرا في هذا الوقت حول دانتيس. فبعد عدة أشهر فقط، وتحديدا في فبراير/شباط 1834، سوف يصدر أمر إلى فيلق سلاح الفرسان بإدراجه في الفيلق برتبة حامـل علم. في ذلك الوقت يسجل بوشكين ملاحظة في دفتر يومياته: “في 26 يناير/كانون الثاني … سوف يتم قبول كل من البارون دانتيس والماركيز دي بينا، اثنان من مناصري الحكم الملكي ضد الثورة الفرنسية، في الحرس وكضباط مباشرة. الحرس يضج بعدم الارتياح.. وفي ربيع 1834 تسافر ناتاليا نيكولايفنا لاستقبال الصيف في ضيعة كالوجسكايا.
وفي إحدى الرسائل الصيفية يكتب بوشكين إلى زوجته تلك العبارة القصيرة التي تعبِّر عن إحساسه بالاشتياق إليها وحبه لها “كان من الضروري أن أتزوجك، ولولا ذلك لظللتُ طوال حياتي تعيسا”. وفي نفـس الرسالة “ترابط الحياة الأسرية يجعل من الإنسان أخلاقيا تماما”.
وفي بداية يناير/كانون الثاني عام 1836 كتب بوشكين إلى ب. ف. ناشوكين “أسرتى تتزايد، تنمو، ويعلو ضجيجها من حولي. الآن يبدو لي أنه ليس هناك ما يجعلني أتذمر من الحياة، أو يجعلني أخاف الشيخوخة”. وكلما صارت بطرسبورج الأغنياء وعلية القوم أكثر تطاحنا وعدائية، وأصبحت الحياة الاجتماعية فيها خانقة، والذكريات عن الأصدقاء أكثر مرارة، صارت الأسرة والبيت أقرب وأهم إلى بوشكين.
وقد أطلق يو. م. لوتمان بشكل دقيق تماما على بيت بوشكين وأسرته “قلعة الاستقلال الذاتي، والعزة الإنسانية”. من الضرورى فهم هذا الأمر، وبدون ذلك لا يمكن فك طلاسم تلك الدراما النفسية التي دارت في نفس الشاعر في نهاية عام 1836 حينما انهارت تلك القلعة”.
يقول عند علاقة بوشكين بزوجته “عندما نعيد قراءة رسائل بوشكين إلى زوجته، تصيبنا الدهشة للكم الهائل ليس فقط من الهموم المنزلية والأسرية، وإنما أيضا للهموم الأدبية والانشغال بالنشر والإصدارات. إن بوشكين يتقاسم مع زوجته أدق الأفكار المكنونة والمريرة حول الحياة الروسية، وحول بطرسبورج “الخنازير” حيث يعيشـان “بين الهجاءات والوشايات”، وحول المصير المر للكاتب والصحفى في روسيا.
وفى عام 1836 يكتب لها على وجه التحديد: “لقد تفنن الشيطان في أن أُولَد في روسيا بروح وعبقرية!”، من الواضح أن هذا الحديث يدور مع متحدث ذكي ومتفهم. لا، لم تكن ناتاليا نيكولايفنا فارغة أو حمقاء، ولم تكن امرأة من علية القوم جميلة وقاسية القلب. لقد كانت زوجة مبالية وكثيرة العناية، وأما جيدة. أما عن القلب، فلن نتعجل الركض إلى الأمام”.
ويخلص فريديكن إلى أنه “بداية من 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1836 اندفع بوشكين نحو المبارزة. كان الوضع الذي وجد نفسه فيه، وكانت حالته التي أدرك نفسه عليها ـ كانت كلها غير محتملة. ولكنهم أعاقوه وأمسكوا به. وبمجرد أن اطمأن جوكوفسكي والآخرون، كرر هو دعوته إلى المبارزة، وفعل ذلك بشكل لا يمكن لأي شيء كان أن يعوقه فيه. لقد تعودنا أن نفكر في بوشكين كعبقري. ولكن العبقري كان أيضا، وببساطة، ذلك الإنسان الذي يملك بيتا وأسرة في هذا البيت، عاش بوشكين، واشتغل، واستراح نفسيا من التوتر والتلصص، ومن المضايقات الانتقادية، ومن القيود.
وإذا حكمنا بناء على الرسائل، فسوف نجد أن بوشكين لم يكن هكذا صريحا مع أي أحد مثلما كان مع زوجته.
وفي 4 نوفمبر/تشرين الثاني أدرك بوشكين جيدا أن قلب زوجته مُنِح لشخص آخر، وأن البيت انهار. وبالطبع فقد أُضير شرفه وكبرياؤه، وكانت هناك أيضا الغيرة. ومع ذلك لم تكن الغيرة هي التي قادته إلى المبارزة. إن بعض المعاصرين آنذاك خمنوا حالة بوشكين، وطبعا دون أن يعرفوا الأسباب وقتها. فسوللوجوب يكتب في مذكراته “كان الجميع يريدون إبقاء بوشكين، وكان بوشكين هو الوحيد الذي لم يكن يريد ذلك.. لقد راح، عبر شخصية دانتيس، يبحث عن الموت أو التنكيل بعلية القوم في المجتمع كله”. أما بافليشيف، زوج ابنة بوشكين، فقد قال على نحو أكثر صراحة: “لقد راح يبحث عن الموت بسعادة، وكان سيظل تعيسا لو بقي حياً”.
وفي الملف الثاني بقلم م. أوسين، أ. فيليمونوف “الشاعر والقيصر.. شهادة غير معروفة عن لقاء.. بوشكين ونيكولاي الأول” يطرح فيليمونوف وثيقة تلقي الضوء على بعض الحقائق غير المعروفة عن سيرة الحياة السياسية والإبداعية لألكسندر سيرجيفيتش بوشكين، “الحديث يدور حول ملاحظات وتسجيلات الأمير البولندي يولي ستروتينسكى. ومن الضروري التعامل معها بحذر شديد، ولكن “أن نطرحها جانبا مثل الأسفار الدينية الكاذبة، فهذا ما ليس له أي أساس من الصحة”.
كتب هذه العبارة الأخيرة المترجم والناشر والشاعر الروسي فلاديسلاف خوداسيفيتش الذي قام بنشر ملاحظات وتسجيلات ستروتينسكي في جريدة “النهضة” باريس في 18 ـ 19 فبراير/شباط 1938. وتحليل ملاحظات وتسجيلات ستروتينسكي الذي قام به خوداسيفيتش عمل في غاية الأهمية. علما بأن مقال خوداسيفيتش ومذكرات ستروتينسكى لم تنشر إطلاقا في وسائل الإعلام السوفيتية وما بعد السوفيتية.
وهنا نقدم نص ملاحظات وتسجيلات ستروتينسكى على نحو مقتضب”.
من هذه الشهادة نورد هذا المقطع “وأذكُر أنه عندما أبلغوني بأمر القيصر أن أقف بين يديه، أصابني اكتئاب مفاجئ ـ ليس فزعا، لا ! ـ ولكنه شيء ما شبيه بالكراهية والحقد والغضب والقرف ( … ) ولكن ماذا في ذلك؟ كل تلك الأحاسيس تشتت وطارت مثل فقاقيع الصابون، تلاشت في اللاوجود مثل رؤى الأحلام، عندما ظهر لي وتحدث معي. وبدلا من الطاغية المتغطرس والحاكم الفرد الصارم والجبار، رأيتُ أمامي وجها نبيلا وهادئا تماما لحاكم يتسم بالفروسية والجمال والنبل. وبدلا من كلمات التهديد الفظة المتوحشة اللاذعة والإهانات، سمعتُ عتابا متسامحا تم التعبير عنه بشكل رقيق وعطوف، حيث قال لي الإمبراطور :
ـ كيف أنت عدو لقيصرك ؟ أنت الذي ربته روسيا ومنحته المجد؟ بوشكين، بوشكين! هذا ليس جيد، هذا لا يجوز !
ـ انعقد لساني من الدهشة والقلق، وتجمدت الكلمات على شفتىَّ. صمت القيصر، وبدا لي أن صوته الرنان بقي يرن في أذنىَّ مستميلا إياي إلى الثقة والإخلاص، داعيا إلى اليقظة والثواب إلى الرشد. ومرت اللحظات وأنا لا أرد.
ـ لماذا لا تتكلم؟ أنا أنتظر؟! ـ قال القيصر ونظر إليَّ في تمعن.
ـ أيقظتني هذه الكلمات، وفعلت تلك النظرة فعلها أيضا. وأخيرا ثُبتُ إلى رشدي، وأخذتُ نفسا عميقا، وقلتُ فى هدوء :
ـ أنا مذنب، وأنتظر العقاب.
ـ أنا لم أعتد التسرع بالعقاب! ـ أجاب الإمبراطور في صرامة ـ لو استطعتُ أن أتفادى هذا التصرف المتطرف سأكون سعيدا. ومع ذلك فأنا أطلب الرضوخ الكامل والطاعة المخلصة لإرادتي. أنا أطلب منك ألا تجبرني أن أكون صارما معك، وأن تساعدني لأن أكون متسامحا معك ورحيما بك. أنت لم تعترض على عتابي لك بأنك معاد لقيصرك ـ قل لي إذن لماذا تعاديه؟
ـ سامحوني جلالتكم، إذا لم أجب عن سؤالكم في الحال، لعلني أترك لكم فرصة للتفكير فـي أمري. أنا لم أكن أبدا عدوا لقيصري. لم أكن، على الإطلاق، عدوا للملكية.
ـ جلالتكم ـ أجبتُ ـ بالإضافة إلى صيغة الحكم الجمهوري التي يمكن أن تعوق تحقيقها ضخامة روسيا واتساعها وعدم تجانس سكانها، توجد صيغة سياسية أخرى وهي الملكية الدستورية…….”.
وفي الملف الثالث من الكتاب تأتي مقالة فسيفولد ساخاروف “الشاعر وأبناء الأرملة” قبلني الماسونيون ف 4 مايو/آيار”، يقول ساخاروف “حول هذا الموضوع تكوَّنَت ميثولوجيا كاملة، من جانب الماسونيين والمناهضين للماسونية على حد سواء، ضربت ستارا حديديا من التعتيم على الجوهر الحقيقى والواقعى للأمر. هنا قيلت آراء وأفكار قاطعة، بيد أنه لا يوجد سوى القليل من الوثائق والمستندات الجديدة والموثَّقة التي عُثِر عليها، والقليل أيضا من الوقائع والحقائق. والأمر الرئيسي هنا ـ هو الفهم الموضوعي والعلمي لهذه المستندات والحقائق. بالإضافة إلى أنه لم يتم بعد تحديد الأمـر الرئيسي ـ مكانة الماسونية في تاريخ الثقافة الروحية الروسية. وقد كان بوشكين وليد ووريث كل هذه الثقافة في آن واحد حيث دخلت فيها ماسونية القرن الثامن عشر كجزء أساسي هام وكمصدر رئيسي للأفكار الإبداعية والفلسفية. الحديث يدور هنا حول كلية أو شمولية النظر إلى العالم، وكلية إدراكه، وفلسفة الحياة أيضا”
المصدر: ميدل ايست اون لاين