ألزهايمر أو النزول من الحافلة .. صونيا خضر

الجسرة الثقافية الإلكترونية –خاص- 

 

ليس حقيقيًا ما نعيشه، وليس حقيقيًا ما نفكر أنه كان من الأجدى لو عشناه، طالما نجيد خداع أنفسنا بكل طرق التعايش الممكنة، التي تزيد من ثقلنا لنقوى على جرّ الحمولة التي تُدعى “حياة” بدلاً من الاستمتاع بها.

 

في الآونة الأخيرة، ينتشر الزهايمر حولنا مثل سرطان مخيف، ونخضع صاغرين للتشخيص القاتل دون أي فعل مقاومة حقيقيّ لوقف استفحاله أو التخفيف من مسببات حدوثه، نواصل عوضًا عن ذلك التسكع في قشور الحياة والسعيّ المحموم لتحقيق وهم السعادة، بعيدون كلّ البعد عن السعادة الحقيقية، والتي لا تحتاج لمسببات خارجية بقدر ما تحتاج  للنور الذي ينبع من الداخل، وهو لا يحتاج منا أكثر من التقييم الصحيح للذات ووضعها في مكانتها اللائقة بعيدًا عن الانتهازية المفرطة من المقربين، عائلة وأبناء وأصدقاء، لا يحتاج منا هذا النور أكثر من امتلاك هذه الذات على الأقل وجعلها وطنًا يهزم كلّ الأوطان الخارجية المفترضة والتي تحفر هاوية عميقة بالروح.

 

الهاوية العميقة تزداد عمقًا كلما أخفقنا بالتفريق بين ما نريد أن نفعل وما يجب أن نفعل، بين ما هو عابر وما هو مقيم، بين ما هو حقيقيّ لأجلنا زائف مقبول لأجلهم، ولو على سبيل التسلق فقط.

نجيد خداع أنفسنا حين نمارس العيش كمحترفين فيما نمارس الحياة كهواة فقط، تؤنسنا بطولات الآخرين على أكتاف ألمنا ونصفق مثل متفرجين لممثلين كان من السهل أن نكون مكانهم لو أدركنا فقط أن المسرح للجميع.

 

الزهايمر؛  فن النسيان أو التناسي، الهروب المشروع في الوقت غير المناسب، التحديق بالفراغ ومحاولة الدخول فيه، التنحي واللجوء إلى الكسل الجسدي والروحيّ، التمرّد على التأهب المفروض والركض اللامنتهي، والقرار المفاجيء بالنزول من الحافلة قبل المحطة الأخيرة.

 

الزهايمر؛ هذا الذي أراه حولي كثيرًا وأفكر فيه وأشك في وجوده أصلًا، رغم كل الدلائل العلمية التي تثبت أنه تلف غير قابل للتعافي في خلايا الدماغ، أراه ليس أكثر من اهتراء عاطفيّ في خلايا الروح، ليس أكثر من وقفة اعتراضية واضراب مستمر على أبواب الذاكرة، حالة من اليأس تدفع الكائن على انجاز قانون سلبيّ لتنويمها والانسحاب منها لحث خلايا دماغه على التلف.

 

المرأة التي ترددت كثيرًا قبل الوقوف على باب الخروج، والاعتراف أن لا باب آخر سواه أمامها، وجدت أن كل ما أنجرته خلال الرحلة الطويلة محض تجاوزات غير منطقية، لأمور كان بالأمكان تجاوزها بالمنطق، مثل المبالغة في تنظيف البيت والطاعة العمياء لزوج متغطرس، التفاني بتنشئة الأبناء تنشئة صالحة، الاحتراف لضبط كمية البهارات في الطعام، والتأكد من أن ماء شطف البلاط نظيفًا بعد الشطف أكثر منه قبله؛ اكتشفت كم كانت وحيدة خلال كل ذلك وبعد كل ذلك، كم نسيت روحها وجسدها قبل فوات الأوان وبعده، وهي تراقب الطريق وهو ينسحب مثل بساط من تحت قدميها ويسحب معه الأقارب والأبناء والجيران والأصدقاء، وتتنبه لأن كل من كانوا مركزًا لحياتها، يأسسون لحيواتهم بعيدًا عن الزمن الماضي الذي كانت فيه ولن تكونه أبدًا بعد، وحدهم الموتى الطيبون الذين عاشرتهم يلفون الهواء حولها بالبرد، فقررت وبعد أن شعرت بالسكون للأبواب كلها، وعلى نحو مفاجيء النزول من الحافلة.

 

الرجل الذي يكتشف انتهاء مدة صلاحيته ومدى وحدته وقت خروجه إلى التقاعد برصيد لا يجيء شيئًا مقارنة بخساراته وبأمراض شيخوخة جاءت أسرع مما كان يتوقع، يتذكر كم أكل العمر منه وقت سحقه في وظيفة هذر فيها الشباب والطاقة من دون حساب، يكتشف أنه انتقل من دور المخرج إلى دور الكومبارس ثم إلى المتفرج المندهش من كل ما يدور حوله، يسترق النظر بخجل إلى جهاز الآيباد بين يدي حفيده، يتابع ما يجري حوله عبر الوسائل الكثيرة المتوفرة، يتألم للاختلاف الكبير بين الصورة على الحائط وبين ما يراه أمامه بالمرآة، ينتبه لشكل أصابع قدميه التي تشوهت من الحذاء الأنيق اليابس، فيما يرى أولاده يرتدون الأحذية المطاطية والملابس المريحة ويمارسون هواياتهم من رياضة وسباحة ورقص، يحزن وهو يرى موسوعة “الانسايكلوبيديا” ممددة مثل جثة  ثقيلة مثقلة بالغبار فوق رف هزيل، فيما تجري الفأرة بجوجل بسرعة البرق لالتقاط المعلومة التي كان ينتظر تقاعده لادهاش أحفاده بها، ليقوم بدور الجد الطيب الذي لديه الكثير ليمنحه بعد، يكتشف أن وجوده وبعد هذه الرحلة الطويلة قابل للطيّ بين الثياب القديمة، ومن السهل تعويضه بخدمة إلكترونية، فيقرر -وعلى نحو مفاجيء- النزول من الحافلة أيضاً.

 

الفجوة الكبيرة الحاصلة بين الأجيال، الانشغالات الطارئة المترتبة على تشابك العلاقات كثرتها وسهولتها، الوعي المزعوم والحرية غير المفهومة وإمكانية تحقيق المقدور على استيعابه منها مقابل حريات الآخرين، التشابه الشديد بين المقروء والواقع أو اكتشاف هذا التشابه، الإعلام غير المسئول والأخبار غير الموثوقة ، الأحداث المتسارعة والركض المحموم لفرقاء كثر نحو معترضين خطيرين، الدين والوعي، والاختيار بينهما بتطرف ودون دين ودون وعيّ. كل هذا يؤسس للرغبة بالنزول السريع من الحافلة.

ليس نسيانًا بل هو رغبة بالتناسي، ليس مرضًا بل استسلامًا ذريعًا للفشل الذريع، فالحياة لم تكن بتلك السهولة ولم تعد بتلك الخفة والبساطة على الفرد العاديّ، الحياة لم تعِد أحدًا بالانتظار ريثما ينتهي من انجاز كل ما لم يكن عليه انجازه لأجل الآخرين، متناسيًا انجاز ولو حديقة واحدة بالروح ليشرب فيها ووحدته فنجانًا من الشاي بحزن أقلّ، ورغبة أكثر  لمواصلة هذا السفر دون أن يفكر بالنزول من الحافلة.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى