«ألماس ونساء» للينا هويان الحسن.. ثقوب الذاكرة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*علي نسر
تؤكّد (لينا هويان الحسن) في روايتها (الماس ونساء) – دار الفارابي – أن الرواية فن مفتوح قريب من البحث، لما تحويه روايتها من قضايا، استطاعت ببراعة فنية، أن تجعلها قضية واحدة متعددة الاشكاليات. فالرواية تغطي الحقبة الاكثر حساسية في تاريخ سوريا والعالم العربي، فيمتد زمنها السردي من أوائل القرن الماضي وصولا إلى ثمانينياته.. وعبر تقنيات زمنية لافتة، نجدنا أمام وثيقة لتاريخ مرحلة ومنطقة شهد تحولاتٍ على مختلف الصعد. فتتّخذ من قضية المرأة صندوقَ صوتٍ تخرج منه القضايا الأخرى، وتحاول اخراجها من قمقم وضعتها فيه ظروف دينية واجتماعية وعلى رأسها الذكورية، فزادتها كبتًا وعقدًا (…أسماء مسمولة العينين، ليظلّ الرجل ممسكا بيد الانثى… أسماء قادرة على تطهيرها من احتمالات التمرد والأسئلة والفضول. ص 155) فتجعلها طرفًا في علاقة ثنائية طرفها الآخر الرجل، لكن ناموس الحياة لم يُعطِ للكاتبة فرصة النجاح في هذا، ما جعلها تتراجع بطرق مختلفة، لتستحيل الثنائية نديّة وليست ضدية، إذ لا يمكن لأحد الطرفين الغاء الآخر كما هي الحال في العلاقات الضدية المألوفة. بل جلّ ما تحاول المرأة فعله هو اثبات الوجود ندّيًّا، عبر تحقيق ذاتها أمام الرجل الذي ينظر اليها بفوقية تكرّس ضعفها وجبروته المتجلّي في المحافظة على هيبته جنسيًّا، وأول ما تفعله البطلة هو طعنه في نقطة ضعفه هذه.(… اي امرأة يمكنها ان تشعر الرجل باللذة، لكن ليس اي رجل يمكنه فعل ذلك… ذبحته هذه الكلمات… ص 133) فتكسر الكاتبة هذه القاعدة وتتمرّد بنسائها اللواتي غصّت بهن الرواية، إذ استطاعت المرأة الخروج نسبيًّا على السائد بتمرّد لافت في مجتمعات ليست مؤهلة لاستيعابه بعد.فما وصلت اليه (لطفية) هو امتداد لأحلام نساء القسم الأول من الرواية وعلى رأسهن (ألماظ) الشخصية المحورية… وكأن الظروف لم تكن مختمرة لكي تحقق الماظ ما حققته خليفتها (لطفية) في الوطن، ما دفع الأولى الى تحقيقه في الخارج. فليس هناك اختلاف بين أعمال النساء في قسمي الرواية سوى أن الظروف كانت ملائمة لدى نساء النصف الثاني من القرن الماضي ولم تتوافر للسابقات.
تسعى الكاتبة إلى اقناع المرأة بتحقيق الاهداف بعيدًا من التمنيات، بل عبر الركض خلف المراد ولو كان بالاسلوب المدان نفسه (الكرة خائنة كما الحياة تمامًا، إذا لم نبادلها الخيانة بخيانة ستركلنا خارج كل الملاعب المحتملة. ص 170) فما حققته لطفية كان باصرار خرج من اطار الامنيات (ما حققته في حياتي كان قرارات، لم انتظر من السماء أية معجزة. ص211)
هذه المعلومات التاريخية الغزيرة، تؤكّد سعي الكاتبة بدأب لإخراج نصها كبحث موثّق. لكن هذا ليس كافيًا، إذ سادت الفكرة على حساب الفنية، والرواية ليست موضوعًا، فالموضوعات مطروحة في الطرقات، إنما الرؤية لا تصبح في مرحلة التفسير الا عبر تضافر تقنيات مرحلة الفهم التي غيبتها الكاتبة مختصرة عناصر تشييد الرواية بوجودها الغالب والمهيمن، فلا صوت إلا صوتها، وكأنها لا تريد مشاركة أحد معها من شخوص النص أو المتلقين ببنك معلوماتها. فأتخم النص بالسرد والتبئير المنبثقين من أحادية الصوت، ولم تُعط الشخصيات حرية التعبير والحكي وما يجعلنا أمام معادل موضوعي للمرجعي، بل قيّدت حركة الابطال رغم الدعوة الى الحرية، وتحكمت الكاتبة بالرؤى عمومًا، وأبرز ما يدلّ على هذا هو الغياب المتعمّد للحوار الخارجي الذي لم يظهر الا قليلًا وبخجل كمن أشعل شمعة ثم اخمدها فورا، كالحوارات بين الماظ والروسي (خولين) أولا وبين كارلوس ولطفية عبر الهاتف ثانيًا. رغم أن أكثر الرؤى أهمية وفاعلية، ما أطلقته الشخصيات عبر بعض الحوارات اليتيمة.
وبرغم امساك الكاتبة حركة النص والسيطرة عليه زمنيًّا، إلا ان صوتها الأحادي حرم المتلقي أيضًا من المشاركة في التحليل كشريك في النص، إذ حاولت أن تلعب على وتر التشويق عبر بعض الاستباقات لكن لعبتها بدّدت عنصر التشويق ولذة اكتشاف ما هو منتظر من قبل القارئ، هذا بالاضافة الى تدخّلها غير المسوّغ أحيانا ككاتبة وليست كراوية. (هكذا علينا ان نفعل في سبيل أولئك الذين نستمرّ في حبّهم بطريقة ما. ص 235)
وهكذا تنبش الكاتبة الذاكرة، للاسهام في تصويب الحاضر، وكأنها تنتظر تغييرًا قادمًا على مستويات مختلفة مهّد له كارلوس ولطفية. ولكن السؤال: لماذا تريد الكاتبة درء الخطر عبر ثقب الذاكرة؟ (ذاكرة بدون ثقوب ستكون قاتلة. ص 63)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السفير