أليخاندرو خودوروفسكي يعد عشاق السينما بـ’شعر لا ينتهي’

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أمير العمري
المصدر: العرب
من الأخبار السعيدة لكل عشاق السينما أن يعلن المخرج السينمائي الكبير أليخاندرو خودوروفسكي، اعتزامه إخراج فيلم جديد، بعد أن وضع مؤخرا، إعلانا يظهر فيه بالصوت والصورة بنفسه، على موقعه على الإنترنت، يقدم فيه موضوع فيلمه الجديد الذي يعتزم إخراجه، ويطلب دعما ماليا من كل عشاق أفلامه، مثلما حدث مع فيلمه السابق مباشرة.
وقد نجحت حملة خودوروفسكي وشركته الصغيرة في تحقيق الهدف منها وتمكنت من جمع أكثر من 442 ألف دولار أي أكثر من الهدف المحدد لها أي جمع 350 ألف دولار لبدء التصوير الذي أعلن أنه سيبدأ في نهاية يونيو ويستمر حتى نهاية أغسطس من العام المقبل. الفيلم الجديد سيحمل عنوان “شعر لا ينتهي”.
وعنه يقول خودوروفسكي إنه سيصور “بحث شاب عن الجمال في الشعر.. عن الجنة الروحية”، وفيه سيعود إلى فترة شبابه في شيلي في الأربعينات، وهي الفترة التي يقول إنها شهدت “ظهور الشعراء العظام أمثال بابلو نيرودا وغابرييلا ميتسرال.. وهما أبونا وأمنا”.
يعتبر أليخاندرو خودوروفسكي Jodorowsky أحد كبار السينمائيين في العالم، وإن لم يخرج طوال 40 عاما، سوى سبعة أفلام فقط، أحدثها فيلم “رقصة الواقع” (2013)، ولكن كان يكفي ظهورفيلم واحد منها هو “الطوبو” El Topo الذي أخرجه عام 1970، لكي يجعل منه رائدا للسينما الجديدة في عصره، وأحد كبار شعراء السينما السوريالية في العالم. وقد عاد إلى السينما عام 2013 بفيلم”رقصة الواقع”، بعد غياب استمر لمدة 23 عاما.
ويريد الآن أن يستمر حتى “النفس الأخير”، في الإخراج، للتعبير عما يكمن في مخزونه الإبداعي، وهو كثير. وفي أحد تصريحاته الكثيرة، قال خودوروفسكي إنه سيعيش إلى أن يبلغ مئة وثلاثين عاما. وهو مستمر في التفاؤل بقدرته على تحدّي قيود الإنتاج والاستمرار في عمل الأفلام بعد أن تجاوز السادسة والثمانين من عمره.
بدايات عملاق
ولد خودوروفسكي في شيلي في 7 فبراير عام 1929 لأبوين مهاجرين من روسيا، وانتقل إلى سانتياغو عام 1942 حيث التحق بالجامعة، كما عمل مهرجا في السيرك ورساما للكاريكاتير، وفي 1955 سافر إلى فرنسا وهناك درس فن البانتوميم مع مارسيل مارسو، وأخرج فيلما قصيرا.
كان فيلمه الأول “فاندو وليز” Fando y Lis الذي أخرجه في المكسيك عام 1968، عبارة عن رحلة سوريالية يقوم بها رجل وامرأة بحثا عن مدينة خيالية لا يمكن الوصول إليها أبدا. وكان مقتبسا عن مسرحية للكاتب الإسباني السوريالي فرناندو أرابال. وقد عرض للمرة الأولى في مهرجان أكابولكو بالمكسيك، ولكن الجمهور من شدة حماسه، تملكه العنف عند نهاية العرض وأراد قتل خودوروفسكي، واضطر لمغادرة قاعة العرض من الباب الخلفي لينجو بنفسه.
خودوروفسكي ليس فقط مخرجا سينمائيا، فقد أسس (مع الكاتب السوريالي فرناندو أرابال) حركة مسرحية في الستينات عرفت باسم حركة مسرح البانيك Panic نسبة إلى إله إغريقي يدعى “بان” Pan
وقد أدى هذا الهياج إلى منع عرض هذا الفيلم لمدة 32 عاما، وإلغاء المهرجان. إلا أنه تمكن من إخراج فيلمه الروائي التالي الذي صنع شهرته في العالم وهو فيلم “الطوبو” الذي ظل يعرض في مسرح “إلغن” Elgin في نيويورك لمدة ستة أشهر في قاعة تمتلئ كل ليلة بنحو ألف متفرج، وتحول بذلك إلى إحدى أيقونات السينما الجديدة.
لم يكن “الطوبو” فيلما يمكن تصنيفه بسهولة، فهو يجمع بين طابع أفلام “الويسترن”، مع لمسات سوريالية واضحة مشبعة بالميثيولوجيا الدينية والأساطير القديمة. وقد رحب الجمهور به بجنون، لأن جمهور نيويورك في ذلك الوقت بعد ثورة الشباب في الستينات، كان مؤهلا لاستقبال عمل بصري خالص يعتدي بقسوة على الـgenre التقليدي لأفلام الغرب الأميركي.
شاهد الفيلم في عروض منتصف الليل نجم فرقة البيتلز الراحل جون لينون فأقنع ألان كلاين مدير الفرقة بشراء حقوق توزيعه، فقام بتنظيم عروض خاصة لنقاد نيويورك أذهلتهم واقنعهم بأنهم أمام موهبة صاعدة خارقة.
وقد أنتج كلاين فيلم خودوروفسكي التالي “الجبل السحري” (1973) وذهب لعرضه في مهرجان “كان” في تلك السنة، ثم أخرج بعد ذلك ثلاثة أفلام هي “توسك” عام 1980، ثم “الدماء المقدسة” عام 1989، ثم “لص قوس قزح” عام 1990 من تمثيل عمر الشريف وبيتر أوتول وكريستوفر لي، وهو الفيلم الذي أعلن في ما بعد تنكره له وأنه لا يمثله بسبب ما فرضه منتجه عليه.
العقاب
من أطرف ما تعرض له خودوروفسكي كان خلافه الشهير مع المنتج والموزع ألان كلاين (الذي يملك حقوق توزيع أفلامه الثلاثة الأولى) بعد أن رفض خودوروفسكي أن يخرج فيلما (على مزاج كلاين)، فما كان من الأخير إلا أن عاقبه بمنع عرض فيلميه الشهيرين اللذين يمتلك حقوق توزيعهما وهما “الطوبو” و”الجبل السحري” وظلا ممنوعين لمدة 30 عاما، إلى أن تصالحا عام 2004، فأعيد توزيع الفيلمين في نسخ من الإسطوانات الرقمية عام 2004 قبل أن يتوفى كلاين عام 2009.
خودوروفسكي ليس فقط مخرجا سينمائيا، بل قد أسس (مع الكاتب السوريالي فرناندو أرابال) حركة مسرحية في الستينات عرفت باسم حركة مسرح البانيك Panic نسبة إلى إله إغريقي يدعى “بان” Pan. وكانت عروض هذه الفرقة أو الحركة، تتميز بالعنف والعري وإلقاء الدجاجات الحية من فوق خشبة المسرح على الجمهور، والصراخ الهستيري، وغير ذلك من الحركات التي تعبر عن الغضب كما تتيح للممثل الفرصة لإخراج طاقة العنف الكامنة في داخله.
وهو أيضا محاضر يمارس العلاج الجماعي عن طريق التحليل النفسي، ورسام ومؤلف لمجلات الرسوم المصورة المضحكة، ومخرج مسرحي وممثل. وجدير بالذكر أيضا أنه قام ببطولة فيلم “الطوبو” وأخرجه وألفه وكتب موسيقاه وعمل له المونتاج.
فيلم “الجبل المقدس” ليس فقط فيلما كسائر الأفلام الفنية الرفيعة التي تتعامل مع أغوار النفس البشرية، وتسعى إلى تفسيرها وتجسيدها بالصور واللقطات، بالحركة والموسيقى، وبالتكوين والتشكيل والضوء والظلال والألوان. لكنه أيضا “مغامرة” كبيرة في السينما التي تُستمد من الفن التشكيلي، ومن مسرح البانتوميم الذي كان خودوروفسكي أحد رواده، ومن العروض الاستعراضية، فمخرجه “رجل استعراض” حقيقي، كما أن له فلسفته الخاصة، فهو يرفض فكرة محدودية الجسد، كما يرفض الحدود القائمة بين الدول أو تقسيم البشر إلى جنسيات وأجناس، يشغله ما يوجد داخل الكائن البشري، أعماقه وخيالاته ومشاعره الحقيقية مهما بلغت من جموح وتوحش.
الفلسفة والخيال
ليس في فيلم “الجبل المقدس” قصة بالمعنى المتعارف عليه، ولا يوجد أيضا سياق قصصي يسير نحو ذروة أو عقدة معينة. وشأنه شأن كل أفلام كبار المبدعين، لا يحتوي الفيلم على “تيمة” يمكن تبسيطها وبسطها، لكنه يتضمن سياقا من نوع آخر مختلف عن السياق القصصي المألوف في الدراما المعتادة.
هناك “توليفات وتنويعات” من اللقطات التي تعكس ولع صاحبها بفكرة الطوطميات أو النقوش التي رسمها الإنسان منذ فجر التاريخ، على الأحجار والكهوف والأرض، مسجلا عليها إشارات ورموزا معينة، يرى خودوروفسكي أنها ترتبط معا في علاقة ما دفينة، تعكس معاني محددة لها علاقة ربما، بالبحث عن أصل الكون، وعن سر الوجود.
بطل الفيلم لص يمر عبر الجزء الأول من الفيلم، بشتى أنواع الاختبارات والمحن والتحديات التي يكتوي خلالها بنيران العالم الحديث وقيمه: الجشع والغش والانتهازية والقمع والتدهور الأخلاقي واستخدام الدين للتضليل بدلا من التنوير، وإساءة استخدام السلطة.
ذنبه أنه يشبه المسيح مما يجعل مجموعة من الأطفال العراة يقومون بصلبه ثم يأخذون في قذفه بالأحجار، لكنه يتمكن من تخليص نفسه من الصليب ثم يطاردهم بدوره ويقذفهم بالأحجار ويلعنهم. قزم مبتور الساقين والذراعين (يتكرر ظهوره في أفلام خودوروفسكي الثلاثة “الطوبو” و”الجبل السحري” و”الدماء المقدسة”) يصادقه، يدخن معه الحشيش ثم يصحبه إلى المدينة، وفي المدينة نرى جثثا عارية غارقة في الدماء فوق شاحنة، ويحمل اللص القزم وهو يضحك.
وفي الجزء الثاني يلتقي اللص بـ”المُخلص” أو الساحر (يلعب دوره خودوروفسكي نفسه) الذي يقوده إلى رحلة يتعرف خلالها على سبعة من الرجال المتنفذين في المجتمع: السياسيين والرأسماليين، ويقول له إنهم “لصوص مثلك بطريقة أخرى” منهم صاحب مصنع للأسلحة، وتاجر للعاديات، ومستشار مالي لرئيس الجمهورية، ورسام يصنع الفن الهابط الاستهلاكي، ومعماري يعمل من أجل أن يحقق المقاولون الملايين من الأرباح على حساب الناس الذين يكفيهم كما يقول “أن نبيع لهم مأوى وليس مسكنا”.
رقصة الواقع
في 2013 يعود خودوروفسكي بفيلم “رقصة الواقع”. وفيه يعود إلى الماضي، إلى طفولته لكي يروي الفصول الأولى من حياته وهو في العاشرة من عمره، تلك الفترة التي تركت تأثيرها الكبير عليه، ويصور علاقته بوالده القاسي، العنيف، الذي كان معجبا بشخصية ستالين وكان يتقمصها، يريد لابنه الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، أن يكون قويا، صلبا، يقهر الألم، يصمد أمام المخاطر، لا يبكي، ولا يضحك، يتحمل العذاب وهو صامد.
وتعكس المشاهد الأولى من الفيلم هذه العلاقة التي ستترك تأثيرها القوي على شخصية خودوروفسكي.
لكن الفيلم ليس مجرد سرد واقعي صارم للسيرة الذاتية لخودوروفسكي، بل هو عمل سينمائي خلاب ينتمي إلى الواقعية السحرية التي تميز الأدب والفن في أميركا اللاتينية، أدب ماركيز، وسينما راوول رويز، تختلط فيه التداعيات السوريالية من الذاكرة، بأجواء السيرك التي تظهر في معظم أفلام المخرج الكبير، وتتقاطع مع مناظر ومواقف ولحظات من التاريخ، تاريخ شيلي موطن المخرج، مع عرض لما يطلق عليه خودوروفسكي “السيكوماجيك” أو العلاج النفسي لعقد ومشاكل نفسية ترتبط بالصلات العائلية أو تكون وراثية، مع نوع من التخاطر العقلي بين الابن والأم.
وكما في “الجبل المقدس” و”الطوبو” يبرز الحس الديني بقوة في هذا الفيلم، وهو يتلخص في الإيمان بوجود الله، مع رفض ممارسات القساوسة ورجال الدين والسخرية من عجزهم عن تقديم حل لمأساة الإنسان وضعفه وحيرته، كما يكشف فساد السياسيين، وبراءة البسطاء، وعجز اليسار عن تقديم يد المساعدة للفقراء وإدانة ذاتيتهم وعجزهم عن الفعل.
أفلام خودوروفسكي رحلة روحانية شيقة، تعكس ولعه بالبحث الشاق عن اليقين ولو من خلال الشك، ورغبته العميقة في التحرر من قيود الجسد وعذاباته، وهو ما لا يتحقق ربما سوى بالموت، لكن خودوروفسكي يؤكد لنا أنه سيعيش حتى يبلغ 130 عاما.