«أم غايب» للمصرية نادين صليب.. ثنائية الذاتي والعام

الجسرة الثقافية الالكترونية
*ندييم جرجورة
المصدر: السفير
هناك امرأة لا تُنجب منذ 12 عاماً. هذه هي النواة الدرامية الأصلية للفيلم الوثائقي الطويل الأول لمخرجته المصرية الشابّة نادين صليب (مواليد القاهرة، 1984)، المُقدَّم في «عرض عالمي أول» في «مسابقة الأفلام الوثائقية»، في الدورة الـ 8 (23 تشرين الأول ـ 1 تشرين الثاني 2014) لـ «مهرجان أبوظبي السينمائي»، والفائز بجائزة «الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسكي)» في الدورة نفسها. لكن، هل يُمكن لنواة كهذه أن تُحقّق فيلماً وثائقياً تبلغ مدّته 88 دقيقة؟ باختصار وبساطة: نعم. السبب؟ لأن هناك رؤية سينمائية تجعل السؤال المتواضع يمتدّ على مساحة بيئة اجتماعية وثقافية وتربوية، وعلى ذوات محطّمة داخل حصاراتها المتتالية في الحياة والعيش والتفكير والمشاعر، وعلى مناخ إنساني قد يعثر على شبيه له في أمكنة جغرافية وتربوية واجتماعية أخرى. ومع صليب، يتوغّل أكثر فأكـــثر في ثــنايا الـــروح الريفـــية المصــرية، بتناقـــضاتها التي تتــيح للإيجابيّ أيضاً أن يواجه التمسّك اللاواعـــي ربما بنســق حياتي متوارث جيلاً بعد جيل. هذا ما فعـــلته نادين صليب، التي حصلت على تمويـــل إنتـــاجيّ من مصادر عربية ودولية مختلــفة لتحـــقيق فيلمها هذا، أبرزها ثلاثة: «إيدفا بيرثا» (أمستردام)، و»آفاق» (بيروت)، و»سند» الإماراتي، صنـــدوق الدعم الإنتاجيّ الــتابع لـ «مهرجــان أبــوظــبي السينمائي»، بالإضافـــة إلى «حصّالة للإنتاج»، الجهة الإنتاجية المصرية الأساسية.
عنوان الفيلم عادي. إنه اسم تُكنّى به السيدة حنان. موضوعه؟ حكاية معروفة جداً في أوساط اجتماعية عربية مختلفة (عدم الإنجاب، مع ما يعنيه هذا من سلبيات في مجتمع محافظ وتقليدي وريفي وذكوري بامتياز). مناخه العام؟ إنساني مفتوح على ثقافة وسلوك تربوي. قصّته؟ امرأة شابّة تحاول إنجاب أطفال من دون جدوى، على الرغم من المحاولات والاختبارات المتعدّدة التي خضعت لها، طبية علمية وطبية شعبية وسحر وغيرها. حكاية تصبّ في عمق المأزق البشريّ، لأنها تذهب بالكاميرا إلى يوميات قرية ريفية في صعيد مصر، ولأنها تراقب وتعاين وتتحاور وتنقل رغبات وخبريات مستلّة من الطقوس التي اعتادها ناس القرية على مرّ الزمن. ولأن العاديّ في الحكاية الأصلية معمَّم في أرجاء مختلفة، كان لا بُدّ للسينما من أن تلعب دورها في مرافقة السرد الحكائي لأم غايب وجاراتها، ولشخصيات أخرى لها مكانتها في ذلك المجتمع الريفي، كحفّار القبور وأفراد عائلته مثلاً. اللقاءات مع هذا الأخير جزءٌ من البناء الفيلمي المُراد له أن يخرج من بنية النصّ الأول إلى المحيط المتنوّع الذي تُقيم فيه حنان، المُكتَسِبة لقب «أم غايب» بسبب عدم «وصول» الابن/ الابنة إلى هذه الدنيا من رحمها (حكاياته عن الموتى والموت، وعن العلاقة بين الحياة وما بعدها، إلخ.). «الداية» تُشكّل، بدورها، جزءاً مُكمِّلاً للحبكة، بعلاقتها بحنان ومتابعتها مسألتها الإنسانية. إحدى جاراتها تُشدّد ـــ تضحك باجتماع الضحك والخجل والسخرية من مرارة اللحظة المعيشة ـــ على أنها محتاجة إلى أن تُحَبّ وتُحِبّ، وهذا أقلّ ما يتوق إليه المرء.
أما السينما، فحاضرة في إيجاد توازن بصري بين اللقاءات المباشرة مع الشخصيات الأساسية من جهة أولى، والصُوَر الملتقطة في القرية الريفية، وما يُمكن لهذه الصُوَر أن تقوله كامتداد للحكاية الأصلية، أو كانعكاس لتفاصيل مُكمِّلة من جهة ثانية. لوهلة، يظنّ المُشاهد نفسه أنه أمام فيلم «تسجيلي» عابر، ينقل مأزقاً ويحاول رسم معالمه. لكن «أم غايب» يحمل قدراً واضحاً من السينما: كتابة (نادين صليب) وتصويراً (سارة يحيى) وتوليفاً (ميشيل يوسف شفيق) على الأقلّ، بالإضافة إلى خطة إنتاجية لـ «حصّالة للإنتاج» لا تعتمد على المفاهيم المتداولة لا للإنتاج التجاري ولا حتى لإنتاج مستقلّ بات محتاجاً إلى قراءة نقدية جديدة: كتابة السيناريو مبنية على ثنائية الذاتي والعام في قراءة اللحظات التي تعيشها حنان في ظلّ صدمة المأزقين النفسي والاجتماعي. التصوير معتمد على مزيج المتطلبات التقنية البحتة (أقوال الشخصيات) بالبُعد الفني للحبكة (لقطات أحياء القرية وأطفالها مثلاً، الغبار، الإهمال، الأعمال اليومية، المياه القذرة في النهر، الفقر، إلخ.). التوليف خلاصة هذا كلّه: ترتيب المتتاليات البصرية في سياق يُفترض به أن يُصوِّر الحالة الفردية كجزء من واقع جماعي.
«أم غايب» تجربة وثائقية منصبّة في إطار الاختبارات السينمائية الشبابية المصرية، المتورِّطة في لعبة إنتاجية وثقافية وفنية متكاملة ترغب في صناعة جديد مختلف للسينما المصرية والعربية.