«أنتِ تشبهينني تماماً» للعراقي سعد جاسم: طقسٌ أنثوي يُشبهُ قصيدة واحدة

الجسرة الثقافية الالكترونية –
صالح الرزوق
صدرت للشاعر سعد جاسم المقيم في كندا مجموعة من الأعمال الشعرية التي تعد على رؤوس الأصابع. ان هذه الندرة برأيي مسؤولة عن حالة التشابه في الصور والترادف بالمعاني، فهو لم يغادر دائرة الغزل المادي والوطنيات التي تملأ قلبه بالشوق والحنين مع ميل جارف للحزن والبكاء.
انها تجربة كل من يعيش في المنفى ويجد الأواصر تبتعد والينابيع تجف وتتحول لمجرد أشباح وأطياف. ولكنه في ديوانه الشعري الأخير (أنتِ تشبهينني تماما)، الصادر عن دار الحضارة بالقاهرة (110 ص، غلاف ستار كاووش)، يفاجئنا بتطور نوعي.
فقد أبدى شيئا من الاهتمام بتكوينات القصيدة المستمرة. بمعنى ان القصائد المستقلة لا تتراكم ولكنها تتسلسل لتصنع في النهاية طقساً عضوياً يشبه قصيدة واحدة.
وهذا ان ذكرنا بشيء يذكرنا بالجو الملحمي لمشهد الشعرية في الثمانينات، حين اختار الشعراء ثلاث نقاط استناد:
الأولى هي الصور المادية، وبالأخص كل ما له علاقة بالطقوس ومبدأ إشباع اللذة الفرويدي. ولكن التي ألبسوها لبوسا رمزيا.
فقد اعتمد في مجموعته على الاستعارة من ما يقبله المنطق والعقل للحديث عن سيرة غرائز لا شعورية. مع التنويه ان العلاقة ليست علاقة جزء بكل، حسب قانون الحداثة المعروف، ولكنها علاقة تصعيد ومجازفة. لقد كان يقرأ الأفعال وكانها نعوت، أو انه يفسر الوظائف في البنية وكانها دلائل في نفس البنية.
وفي هذا السياق أصبح الحب الليلي (مجريات وأحداث غرف النوم) نوعا من العبادة. كما في قوله:
تحيلين الليل مملكة للطقوس.
وتعرية المرأة أصبحت ترادف تقشير الثمار والتهامها كقوله:
تعالي
لتنطق أشجاري
لغة ثمارك المشتهاة.
وقوله أيضا:
سأشم وردتكِ الساطعة
وأقضمُ تفاحتَكِ الشهيّة
أرتشفُ عسلَكِ الأشقر
انه حب لذي وفموي. وغالبا يماهي بين العواطف والوجدان وبين الغرائز والحواس. وعليه لا تخلو صورة أو صفحة من كلمات لها علاقة بالثنائي المعروف : المرأة والطعام. أو ما يمكن ان نسميه باستراتيجية الحدود والثغور. وكل ارتباطاتها كالإيلاج والكمون والسكن، إلخ.
فهو قارب نافر وهي نهر دافئ وحنون ، وهو المنفى وهي بريق المرايا.
وهي الوطن وهو الذي يسكن فيه.
النقطة الثانية : هي أخلاق التصوف والتنسك. فالشاعر يلح في كل لحظة على عزلته واغترابه، ثم على عفته عن الدنايا والترفع عن الآثام والأخطاء.
و لتبرير اهتمامه بمحاسن معشوقته يصورها كتوأم لروحه المتألمة والضائعة (وهذا يفسر عنوان المجموعة: أنتِ تشبهينني تماما).
ناهيك عن التفسير الإلهي للحب فهو يؤكد انه جزء من إرادة الله. ألم يذكر في قصيدة (ملائكة الثلج والنبيذ): ان الله تجلى له وخلق هذه المرأة من أجله؟..
وهنا أضع خطا أحمر تحت هذه المفردات.
فالاتكاء على مفردات التبتل والورع في سياق العشق والوجد يضع المعاني في مواجهة ذاتها. ولا شك ترتب على ذلك تصعيد مفاتن المرأة وأماكن العيب. وهذا بواسطة التماهي مع الطبيعة بمطلق المعنى، ومنها الطبيعة الإلهية، التي يرى المتصوف انها في الأشياء وفي الذات.
وهنا انوه ان سعد جاسم استعمل في هذه المجموعة العبارات والصيغ الوجودية ذات المضمون التنسكي. وبنفس الطريقة التي ابتكرها في الثمانينات السوري نزيه أبو عفش في درة أعماله (الله قريب من قلبي).
وأعتقد ان تحميل سلوك المحب لأخلاقيات العبادة فتح الباب على وسعه لتوظيف مفردات طقوسية مثل قوله: تبارك بك الحب ، وقوله: كركراتك التي نحبها أنا والله.
أو قوله:
مباركة بصلواتي
وآيات دمي .
وليس في ذلك غضاضة. فلطالما كانت المرأة الولود والمرأة الفاتنة الحسناء رمزا من رموز المقدس أو جزءا لا يتجزأ من عرش العبادات والطاعات.
وهكذا أصبح ما فوق الطبيعة جزءا من تفسيرنا الموضوعي لانفسنا وأصبحت أزمة الندرة، وما يترافق معها من شقاء، أزمة وجود ونفس. ولها علاقة بالاضطرابات العامة التي تسببت للجيل كله بالعطب وليس لشريحة منه فقط. وكما أرى أعاد سعد جاسم في هذه المجموعة تصميم معادلة نزيه أبو عفش عن الزمان الضيق والأرض الواسعة. وألقى باللوم على مفهومنا للتاريخ وليس على التاريخ ذاته.
النقطة الثالثة والأخيرة هي تجسيد العواطف وتبرئتها.
لقد حاول الشاعر في قصائده ان يبتعد عن لغة السياسة ولكن هذا لم يمنعه من التغزل بالوطن وتقريع السلطات التي تهاونت في الدفاع عن «الحياض».
و لقد دخل إلى هذا الموضوع من باب إسقاط حبه للمرأة على حبه للوطن. وهكذا تحول الغزل الإيروتيكي بطابعه وضرورته إلى أناشيد وطنية يغلفها الحنين للماضي وللأرض والعناصر.
من ذلك قوله مثلا:
ارتقي معارجك
جبلا.. جبلا
وكوكبا.. كوكبا
و فردوسا وآآآه
اكتشف قارتك
مسامة مسامة
وحقلا حقلا
ونهرا نهرا….
ولكن لا بد من التنويه ان هذه المعاني كانت مكشوفة في مجموعاته السابقة مثل (موسيقا الكائن). هناك تجد كلاما مسهبا وإشارات واضحة عن الحرب والعسكرتاريا والهزائم والدم والدخان. ولكن في هذه المجموعة كل شيء يتحرك على السرير. فالوصال يعني الرخاء والرفاهية والحب الممنوع يعني الظلم والطغيان.
وإذا كانت الفكرة بحد ذاتها معروفة في الشعر العالمي والعربي (في الذهن إلزا وأراغون، وماتيلدا ونيرودا، ثم بلقيس ونزار قباني، ويمكن ان أضيف يونس بن ماجن وإدريسية التي رحلت وتركت في قلب الشاعر فراغا غامضا لا يمكن التفاهم معه لأن فكرة الغياب بحد ذاتها حفرة مبهمة ليس لها مغزى مقبول)، فإن سعد جاسم أضاف لما سلف أسلوب المناجاة الدرامية، فهو يفترض معشوقته بقوة الضرورة، ولا يشخصنها. وهذا يضع تصوراتنا عن امرأته في نطاق المعاني وليس الحدود. انها اختصار لمعنى المرأة بشكل عام بينما كل الإشارات عن البلاد والوطن والأرض واضحة ومحددة ولها صفات نوعية ترتبط بذكريات وتواريخ وأحداث.
لم يناور سعد جاسم في قصائده واقترب من الموضوع فورا وكتب للمرأة وبأسلوب مكشوف يكاد يترادف مع رواية جانيت وينترسون (المكتوب على الجسد). غير ان هذه الرؤية اللذية الشديدة الضراوة بماديتها، لم تكن إلا مقدمة لمضمون سرعان ما يفرض نفسه.. في حالة (ونترسون) الكشف عن ضعف الإنسان أمام العلل والأمراض وبالتالي أمام شرور البشرية. وفي حالة سعد جاسم الانتماء لجسم أو فضاء أو حيز في الظاهر هو امرأة مجهولة ولكن في الحقيقة هو وطنه الغائب، مصدر عذابه ومكابداته.
القدس العربي