‘أنين أوسر’ .. يفتح ملف اغتيال العلماء المصريين

الجسرة الثقافية الالكترونية
محمد الحمامصي
التاريخ، والعلوم المقارنة، ليست فقط مجرد علوم تعود على البشرية بالنفع، بل هي من أهم العلوم إن لم تكن أهمها لمن شاء أن يرتقي، فمن التاريخ نستمد الحكمة والخبرة، ومن العلوم المقارنة نستنتج الحقائق ونصل إلى الطريق الصحيح لمن أراد تطورا. من هنا وجب علينا قراءة تاريخنا تراثنا، ليس فقط مجرد قراءة، بل فهم لما تعنيه الكلمة وما ترسله لنا من رسائل، لنحللها ونمحصها، ونقارنها بواقع نعيشه، بهذا، وبهذا فقط يمكن للخير أن ينتصر. أساطير، وإن كانت نسختها البسيطة تسرد على هيئة حواديت قبل النوم لينام أطفالنا، إلا أنها في الواقع لم تكن لننام ولكن أساطيرنا المصرية صيغت بحكمة وحنكة لنفيق من غفوتنا.
من هذه الرؤية للباحث والكاتب عادل السيد خميس كانت فكرة كتابه “أنين أوسر” الصادر هذا الأسبوع عن دار ليليت بالاسكندرية، حيث يقوم على فكرة الربط بين ماض مستمد من التراث المصري بأساطيره، وحاضر عاصرناه أو كان منا قريبا، ليضع نقاطا على حروف الصراع بين الشر والخير، صراعا أزليا، بدا فيه أن الشر انتصر مرات ومرات، ولكن واقع الأمر أنه لم يكن انتصارا بقدر ما كان دروسا لنتعلم منها، ليبدأ الكتاب بمقدمة تعريفا بمضمونه، يليها ثلاثة عشر فصلا ما بين تاريخنا القديم وتاريخنا المعاصر، فكل من الفصل الأول والثالث عشر تناولا الصراع بين الشر والخير في العصر المصري الأصيل، تناول الصراع من خلال أساطيرنا المصرية القديمة، ليتناول الفصل الأول الصراع بين “ست” وأوسر “أوزوريس” الذى يبدو فيه انتصار الشر مرات ومرات، ولكننا نستخلص منه مبادئ وقيما ومثلا تمثلت فيما قامت به الإلهة إيزا “أيزيس” من إخلاص للزوج حتى وإن كان ميتا، كما نستخلص منه مدى قوة العلم ومدى رفعة من يمتلكه.
وينتهي الكتاب بانتصار الخير الذى كتب لنا كبشر مهما طال أمد الشر ومهما تعددت سبله، ينتهي الكتاب في فصله الثالث عشر بما قام به حور “حورس” ليعود الحق والخير إلى مصر وشعبها. ولما للعلم من درجة، فقد كانت الفصول الإحدى عشر ما بين الأول والثالث عشر، تتناول العلماء المصريين الذين اغتالهم الشر الحديث، منهم من ذاع صيته اعلاميا كالعالم الأجل مصطفى مشرفة وتلميذته سميرة موسى، ومنهم من لم يكن له حظ وافي في الإعلام مثل نبيل القلينى وعبده شكر، ومنهم من كان سنه كبيرة مثل وديع وهبى وسلوى حبيب، ومنهم من كان في مقتبل عمره مثل كريم أسعد، ومنهم من برع في علم الفضاء كسعيد بدير، ومنهم من برع في باطن الأرض وجغرافيتها كـ جمال حمدان.
كما لم يفت الباحث أن يذكر يحيى المشد عالم الذرة الوطني العربي المصري، وكذلك تعرض لـ سمير نجيب ونبيل القلينى، كلهم كانت لهم نهاية واحدة بعد صراعهم مع الشر، فقد اغتالتهم سبل الشر بطرقه المتعددة، لم يكن شرا متمثلا في أسطورة، بل شرورا متنوعة ومتغيرة أراد الباحث أن يضع عليها خطوطا لنفيق ونعود لمصريتنا، نعود لأخلاقنا وحنكتنا وعلمنا لنترتقي وترتقي مصر، فبرقيها يرتقي الكون.
حول تجربة الكتابة والكتاب كان حوارا مع الكاتب والباحث عادل السيد خميس، حيث أكد بداية على أن الكتابة في حد ذاتها ليست هي الممثلة للتحدي وقال “لكن الحياة مليئة بالصراعات وكل طرف يسعى إلى النجاح فيما يمثل تحديا عظيما مقابل المعطيات المتاحة والمعوقات المصاحبة، وبعض صراعات الحياة تتمثل في الوصول إلى الحقائق وإيصالها للبشرية، فما التاريخ سوى كتابات كتبت من قبل من أراد أن يوثق الحقائق أو يمحوها، ومن هنا كان التحدي في الكتابة أن ترك للشر أن ينتصر أم ينتصر الخير بكتاباتنا.
أما عن الكتابة في مجال المصريات ومعوقاتها والصفات التي ينبغي توافرها في كاتبها، فرأى عادل خميس أن المصريات المجال الأكثر تشويقا، وغموضا، وأهمية، فبالرغم من ظاهرية المادية في علم المصريات من معابد وطرق وهندسة بناء، إلا أنه علم يعتمد في أساسه من وجهة نظري على فلسفة عظيمة قد يصل بنا وصفها على أنها فلسفة إلهية وهي في حد ذاتها لامادية، أثرت في الماديات لينتج من هذا المزيج علما يصعب التعامل معه لعمق مضمونه، وكثرة مفرداته.
وأضاف “يمثل هذا التداخل والذي يعد تداخلا بناء وحائطا مانعا لاقتحامه إلا من قبل قليلين، ليس توافر المعلومة فقط تكفي، ولكن يفوقها أهمية في الكتابة عن المصريات أن يعيش الكاتب مصريته، وأن يحبها لتظهر تلك المصرية وتبدأ بإعطائه خفاياها، فالكاتب هنا مختار من قبل مصر ليكتب عنها. فالكتابة في المصريات لا تعد بحوثا علمية فقط بل فاقت مرحلة البحث العلمي إلى مرحلة معايشة البحث ومعايشة الفلسفة المصرية والولوج إليها، ليسرد بعد ذلك الكاتب وبكل بساطه ما يشعر به وما تمده به مصر من خفايا وأسرار”.
ولفت عادل خميس إلى أنه وقد تعمد ألا يكون العنوان أنين أوزوريس مفضلا “أنين أوسر”، لأن أوزوريس هو أوسر أو أوزير وكلاهما مقبول لمصريته، أما كلمة أوزوريس فما هي إلا تحريف ممن هو ليس بمصري لاسم أوزير أو أوسر، فمازالت الأصوات لنا فيها خلاف نسبي، المهم أن نعود لمصريتنا حتى تعود لنا، وإن عدنا لتفتحت لنا كنوز العلم والخير ممن تعطي بلا حدود، ممن تعطي لزائرها كما تعطي لأهلها، ممن يعد الانتساب إليها في حد ذاته عطاء منها لنا، فلنتفحص كلمة مصري التي تحمل كلا المعنيين، فهي تعني الإنتساب لمصر، وتعني في المقابل ملكية مصر، فما أن تقول أنا مصري وتفتخر بنسبك إليها تجدها في المقابل تهبك نفسها لتجد نفسك تقول مصري أي مصر التي هي لي”.
وأشار إلى أنه سعى في الكتاب آملا أن يربط الحاضر بالماضي، وأن ينوه عن الإستفادة من تاريخنا ومما مررنا به عبر قرون من الزمان هي كنز في حد ذاته، فكل يوم يمر يعطينا خبرة وحنكة وإن لم نستفد منها فهو الضياع، لذا كان كتاب أنين أوسر وخطه الرابط المتمثل في الصراع بين الشر والخير بدءا باسطورة أوسر وست وانتصار نسبي للشر، وصولا إلى انتقام حور وانتصار الخير حيث غلف هذان الفصلان فصولا من عصور أحدث زمنيا استمر فيها الصراع بين الشر والخير متمثلا في مقتل مصريين، وليس فقط مصريين وهو فخر في حد ذاته، ولكن مقتل علماء مصريين، فالشر بتعدد وسائله لن يتخلص إلا ممن هو مصدر خير، والعلماء هم خصوبة العلم لإنتاج الخير، من هنا كان اهتمامي الشديد بهذا الكتاب حيث إنه لا يسرد ولا يحكي، ولكنه يحذر ويضع نقاطا للتنبؤ من أجل الرقي، من أجل انتصار الخير، من أجل مصر.
وحول أبرز تقنيات الكتابة في مجال المصريات، قال عادل خميس “يعد التطور في العلم عاملا حافزا للوصول إلى الحقائق، وما الكتب إلا توثيق للتاريخ في محاولة للوصول إلى الحقائق ومحو الخاطئ منها، وقد أدت التقنيات الحديثة لعمل قواعد بيانات عديدة في كثير من المجالات ومنها بكل تأكيد مجال المصريات، مما وفر الكثير من الوقت والجهد ماديا، وأرهق الفكر عمليا، إلا أنه في النهاية سهل الوصول إلى ما يجب نقله للبشر من حقائق، والغوص في قواعد البيانات عن المصريات هو في حد ذاته متعة، تمتعت بها ومازلت سواء فيما كتبت أو فيما أكتب، فهي متعه في حد ذاتها”.
فتح كتاب “أنين اوسر” قضايا اغتيال العلماء المصريين ونبه د. عادل خميس أن ملفات هذه القضايا بالفعل لم تغلق، بل هي ملفات لن تهمل، فنحن نتعلم من ماضينا لنبنى مستقبلنا، وإن كان طرحها قد يبدو لبعض وجهات النظر على أنه مجرد سرد تاريخي إلا أنه في واقع الأمر دراسة لما يجب علينا اتخاذه من حيطة مستقبلية حتى نتمكن من بناء أمة، واستعادة مجدنا بأيدينا وبعلمنا.
وأشار عادل خميس إلى أن الكتاب الأهم هو ما ينمو في داخله، فما أن يولد فله الرعاية، من إضافة وتعديل، ولكن دائما يصبح الأهم هو الجنين الذى لم يولد بعد، فسيظل كل كتاب هو الأول في أهميته إلى أن يشع نوره، فيظهر النور للقارئ. وأنين أوسر يعد الكتاب الثانى نشرا بعد كتاب “بعث روى”، راجيا من الله التوفيق في نقل ما بداخلي إلى ساحات الصحائف لتقرأ ولينطق التاريخ بلسان مصر وأبنائها.
وأوضح فيما يتعلق بالمشهد الثقافي في مصر “على عكس التوقعات التي كانت سائدة في الفترة الماضية، فقد رأى الكثيرون أنه لا مستقبل لمصر ثقافيا، فشبابها اتهموا بالتقصير في شتى المجالات، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك، فمصر كانت ومازالت وستظل هي مصر العلا، وأبناؤها أثبتوا للعالم مدى قدرتهم على استيعاب الواقع وفهمه، بل والمطالبة بتغييره، لقد أثبتت الأحداث المعاصرة أن المستوى الثقافي المصري فاق التخيل وسما فوق كل توقعات، وأرى أنه في صعود مستمر.
ورأى عادل خميس أن النسيج العربي نسيج واحد ما ينطبق على أصله ينطبق على فرعه، وإن تعددت منابته، فنرى كتابات من أشقاء لنا من القوة ما يدعونا للوقوف احتراما وإجلالا سواء في المجالات البحثية الثقافية أو في الشعر ونظم الحروف، نعم قد تخبو أحيانا ولكن هي موجوده، نعم قد تطمس أحيانا عن عمد أو عن غير عمد، لما في الحياة من تداخلات ما بين السياسة والمصلحة والشخصية والحياة العامة.
وأكد أن الثقافة هي تراث الشعوب، هي ما تتوارثه الأجيال من علم سواء من خلال كتابات كتبت على حوائط أو كتابات كتبت على أوراق، ونأمل أن نكون لبنة في ذلك البناء العظيم.
وقال إن “كثرة متطلبات الحياة مع صعوبة مواردها قد تكون محفزا بنفس النسبة لأن تكون عائقا، يتوقف الأمر على الكاتب نفسه، فمتطلبات الحياة تمثل في حد ذاتها صراعا إنسانيا باعثا للفكر والابتكار، فقط علينا أن نسعى لنصل إلى ما ننشده، وألا نعتد بنظريات قد تكون محبطة بل قاتلة للإبداع، فلنعمل ولا ننتظر النتائج فهي قادمة لا محالة.
يذكر أن عادل السيد خميس له العديد من المؤلفات التي تلتزم التمحيص والبحث في علم المصريات، وقد ولد بالإسكندرية ودرس بمدارسها حتى شهادة البكالوريوس في الفيزياء والكيمياء، تخللها وأعقبها مجموعة من السفريات إلى عدة دول أوروبية، وأميركا حيث حصل على شهادة الماجستير في الإدارة التعليمية
المصدر: ميدل ايست اون لاين