«أنْدَمُ كُلّ مَرَّةٍ» للفلسطيني وليد الشيخ: شِعْريَةٌ تَسْتَبيحُ «عَـراءَ» اللُّغَــة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*صلاح بوسريف
المصدر / القدس العربي
وليد الشيخ، شاعِر فلسطيني، من الجيل الذي وَجَدَ نفسَه في «العَراء»، أعني ذلك العَراء المُلِحّ الذي فَرضَ عليه أن يُعيد تأَمُّلَ نفسِه، في سياق ما اتَّخَذَتْه «القضية»، من مُنْعَطفاتٍ، هو، كما غيرُه من الشُّعراء والمبدعين والمثقفين الفلسطينيين، لم يكن ربما، قابِلاً بها كتسوياتٍ أفْضَتْ إلى ذلك القلق الوُجودي، الذي هو قلق الشَّاعر، لا قلقَ غيره ممن خاضُوا القضية من باب السِّياسة أو المُقاومة، والمُواجَهَة المباشريْن.
أن يجد الشَّاعِر نفسَه في العراء، فهذا، في ذاتِه، تعبير عن حاجَةِ الشَّاعر لِلِسانِه هو، لا لِسان غيره، ولِلُغَتِه هو، لا للغة غيره، أو بالأحرى، لذلك اللِّباس الذي يكون نسيجَ يَدَيْهِ. هذا ما حاوَل وليد الشيخ، في ديوانه «أنْدَمُ كُلّ مَرَّة»، أن يقُولَه، ليس من خلال المعنَى الثَّاوِي في قاع النَّصّ، بل من خلال طريقتِه في استعمال اللغة، وفي توليد الصُّوَر وحِياكَتِها.
نصوصُ الدِّيوان هي حصيلة سبع سنواتٍ من الكتابة، أو من تأجيل النَّشْر، ما يعني أنَّ وليد، كان مُنْشَغِلاً بالمُفارِق، وبما لا يمكنه أن يكون اسْتِعادةً وتكراراً لِما هو رائج في النص الشِّعريّ العربيّ الرَّاهِن، الذي باتَ فيه المُتشابه والعام، يَحْجُبُ الاسْتِثْنائِيَّ والخاصَّ.
لم يبحث وليد عن لُغَة مُثْقَلَة بقديم اللغة، أو بتُراثِها الذي، غالباً ما يُخْفِق الشَّاعر في توظيفها، حين لا يكون مُتَمَلِّكاً لزِمامِها، أو لا مَعْرِفَةَ له ببعض مُقْترَحات التراث الجمالي لِلُّغَة، في مَفاصلِها الفارِقَة، التي يمكن أن نَعْتُر عليها في الشِّعر، كما في النثر، بل إنَّه اختار لُغةَ التَّداوُل، أو ما هو مُتاحٌ من تعبير وألفاظ، للخُروج بها، في تركيبها، وفي «نَظْمِها»، عن هذا المُتاح، ووضْعِها مِلءَ اليَدِ واللِّسان، أي تلك اليد، وذلك اللِّسان اللذان يحْدَسانِ فَرْقَ الكلام، ويعرفان من أين يأتِ المُفارِق، الذي هو عَمَل باللغة، وفي اللغة، ليس لاستعادتها أو اجترارها، بل لاستئنافِها باخْتِراقِها، والعبور بها من سياق جمالي، إلى سياق غير مُتَوقَّع، أو لم يَعْتَد اللِّسان على جَسارَتِه، وما يمكن أن يَحْفَل به من إضافاتٍ وابْتِداعاتٍ.
لم تُسايِر لغة الديوان، لُغَةَ «قصيدة النثر» التي أصبحت شبه مُبْتَذَلَة في كثير مما يُكْتَب ويُنْشَر من نصوص ودواوين. فوليد الشيخ، أخذ مفرداتٍ بسيطة، تجري على الألسنة، في ما هو مألوف، بما في ذلك مفردات دخَلَتْ إلى العربية بحكم التطور التقني، من مثل «موبايل» و «شبكات التواصل الاجتماعي» و «اللاب توب» و «الفيسبوك» و «الواتس آب»، و «الإيميل» و «غوغل» و «النِّتْ» و «محلات الشاورما»، وغيرها، مما يدخل في سياق المجتمع الاستهلاكي، لا في سياق مجتمع المعرفة والعلم والجمال، لِيقُوم بتحويل هذه المفردات والتَّسْمِيات، إلى قِطَع غيار تعبيرية، يُوَظِّفُها في السِّياق الشِّعري الجمالي، حيث تصير الجملة، في تركيبها، ليست هي هذا اللَّفْظ عارياً، بل هذا اللَّفظ وهو يدخُل في علاقةٍ مع ما يوازيه ويُساوِقُه من ألفاظ، تُتِيح للمعنى أن يكون مَعْنًى، يجري ويحدث في هذا السياق وبه، وليس بما هو خارجَه. لا يعني هذا تجريد هذه المفردات والتعابير من إيحاءاتها، بقدر ما تعمل يَدُ الشَّاعِر على إعادة تَبْيِئَتِها وتَكْييفِها في السياق العربي العام، أو في السياق الفلسطيني الخاص، كتعبير عن صَدْمَة التقنية، بما أحْدَثَتْه من فراغ في الوعي العام، أو في تحويل هذا الوعي، إلى وعي بـ «الألوان»، أو إلى «أحلام مُلوَّنَة بالصَّوْت والصُّورة»، أو كأنَّها نوع من التعويض عن «النَّدَم» الذي بات يتكرَّر، حتَّى بلا مُبَرِّرٍ. والسؤال الذي يختزل هذا الوعي المُتَلاشِي، ويُضاعِف من سوداويته السَّاخِرَة، أو يعكس درجة مأساويته، هو، «لو تعطَّل الفيسبوك هذه الليلة»، أو لِلَيْلَة واحدة، في أقل تقديرٍ، من يَرُدُّ على تحياتِ «الموتى».
في هذا النص، كما في غيره من نصوص الديوان، ثمَّة سخرية سوداء، أو نوع من الباروديا، التي تتوخَّى قَلْب الأشياء والعلاقاتِ، بِنِسْبَةِ الحياة لِلْمَوْتى، مثلاً، وبنسبة الموت لـ «الأحياء». في مثل هذا النوع من قلْبِ العلائق والوظائف، يصير السؤال هو: هل «الحَيُّ» الذي يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق، هو حَيّ بالضرورة، إذا كانت «الآلة» هي ما يحكم علاقتَه بالواقع، و ربما بوجوده، باعتباره «آلةً» لا إنساناً؟
قد يتساءل القارئ عن علاقة وليد الشيخ بـ «القضية»، باعتباره فلسطينياً مُقيماً في رام الله، إذا كان هذا هو ما يقوله، أو هو ما قد تُوحِي به نصوصه، أو بعضها، على الأقل، أي بما أنَّه ليس واضحاً، بصورة مباشرة، في علاقته بـ «القضية»؟
هذا ما يُفَسِّر ذلك «العَراء» الذي أشرْتُ إليه في البداية، وهو عراءُ جيلٍ، أو جيليْن من الشُّعراء الفلسطينيين، الذين اعتبروا القضية ليست شِعاراتٍ وخِطاباتٍ، لا شيء يفصلها عن خطابات السِّياسِيِّين والمُناضلين الذي يعملون على الأرض، فاختيارُهُم لكتابةٍ مُتَخَفِّفَة من آثار العابرين، ومن وطأة مُدَوَّنةٍ شعرية، نأَتْ بنفسها عن السِّياق الجمالي، لِتَنْحازَ للسياق السياسي أو الأيديولوجي، هو ما جعل «القضية»، التي أتعمَّد، لهذا الغرض، وضْعَها بين ظُفْرَيْن، تخرج من سياقها السياسي المباشر، إلى سياقٍ شعريٍّ، يَعْمَل الشَّاعر من خلاله على إعادة تَفْكِيرِ القضية، باعتبارها «قضية» وُجود، لا قضية أرض، و«قضية» إنسان وفكر، لا قضية احتلال وحَجْر، أي بما ينقل القضية من صراعٍ بين طَرَفَيْن، إلى «قضية» طَرَفُها الأساس، هو الإنسان، في بُعْدِه الأخلاقي والحقوقي، أي بما هو كائن يحيا ويعيش حُرّاً، طَلِيقاً، مصيره في يَدِه، وأيضاً حياتُه، لا في يَدِ قَنَّاصٍّ ينظر إليه باعتباره طريدةً، لا تَخْضَع لقوانين القَنْص وشرائعِه، والغابَة بكاملها، تصير بين يَدَيْه وَحيشاً، لاشيء يَحْجُب دَمَه، أو يَقِيه من القَتْل.
في الجزء الذي سَمَّاه الشَّاعر «بَالِيسْتِينْيَا»، يبدو اختيار الاسم، بهذه الكتابة غير العربية في نُطْقِها، هو أيضاً، تعبير عن «العَراء»، وعن الغُرْبَة التي باتتِ الذَّات تُقيم فيها، والاسمُ، «مُحَرَّفاً»، هو ليس غربةَ الاسم عن اسْمِه، أو نَفْسِه، بل عن الذَّات التي تُقيم فيه، أو يُقيمُ فيها، خالياً من مادِيَتِه، أو ناقِصاً، لا يُعَبِّر عن الانتماء الكامل، وعن الهوية التي هي هوية غير مُكْتَمِلة، وشديدة التعقيد.
عودةُ الاسم رهين بما قد يأتي، أي بذلك المستقبل العَصِيّ على الحضور، أو الشَّاقّ في حضوره وتَبَدّيه، فهو يُشْبِه الـ«نَّبْعَ» الذي يخرج «مِنَ الصَّخْر»، لا يَنّبَثِق إلاَّ بَعْد شِدَّةٍ وعُسْرٍ، ومُجَاهَدَةٍ. لا طَعْمَ للاسم في اللِّسان، فهو طُعومٌ كثيرةٌ، تتنوَّع وتَكْثُر بحسب ما تقتضيه الحالة، أو الوضع. فهو «حارٌّ بِكُلّ حلاوَتِه» و «رَطْبٌ كشِتاءٍ قديمٍ» وكـ «أحْرُفٍ تُقالُ لأوَّل مرَّة». فِعْل التَّهَجِّي، وصعوبة النطق، هو نوعٌ من العَيِّ الذي، غالباً ما يكون ناتِجاً عن حالةٍ نفسيةٍ، تكون فيها الذَّات في صراع مع نفسها، في اختبارِ علاقتِها بهذا «الآخَر» الذي هو «الأنا»، في إسْمِيَتِها، أو في هويتها الكاملة.
«القضيةُ»، بهذا المعنى في النص، هي تَجَلٍّ في خَفاء، أو هي ما يترسَّبُ في النفس، بعد أن تكون تَخَلَّصَت من المعنى المباشِر، الظَّاهر، واسْتحال «الوطن» فيها إلى جَسَدٍ يُقيم في الجَسَدِ، وإلى أرْضٍ، هي الإنسانُ نفسُه، وهو يخرج من تُرابها لِيَصِير هو نفسُه، الوَطَن والمُواطِن، رغم ما يعتري هذا الوطن، أو الاسمَ من لَعثَمَةٍ وتَشَقُّق، وارتباكٍ، أو عراءٍ بالأحرى.
لم يَعُد الشِّعر يسْتَسْلِم لِما يأتيه من خارجِه. الشِّعر هو تأسيس للمعنى، بالشِّعر نفسه، بلغته، لا بما يأتي من خارجها، بصوره واستعاراته، وبأيقاعاتها التي هي إضافةُ مَعانِيَ جديدة، أو إيحاءات بمعنًى، هو غير المعنى السَّائِد والمعروف، أو العام الشَّائع، وهذا ما كان وليد الشيخ يحرص على فعله في ديوان «أندم كل مرَّة».