«أوراق من عمر مكتوب».. عالم رأس بيروت

الجسرة الثقافية الالكترونية – السفير
سبق أن أعلن ميلان كونديرا أنه يمكن لأي إنسان أن يكتب قصة حياته لتأخذ شرعيتها كنص روائي، وهنا تكتب منى بارودي الدملوجي في كتابها «أوراق من عمر مكتوب» الصادر حديثا عن دار نلسن ـ بيروت، ما هو أبعد من الذكريات، شهادة في المكان (راس بيروت)، كتاب يمتلئ بالأخبار والطرائف والأسرار. تسرد لنا شتى الحكايا عن أشخاص وقامات ورموز ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. إنه زمان بيروت الرائق، الأرستقراطي. مدينة تشبه سيدة أهم ميزاتها الرقي والترفع عن السفاسف. مجتمع ساحر تقدمه ابنة ذلك المجتمع بأمانة وتهذيب ووضوح.
كان جدها ملّاكاً ومزارعا قرويا، عاش وتوفي في عين الرمانة، وأنشأ عائلة فيها. ووالدها تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة القرية عند المعلم جريس، ولاحقا دخل الجامعة الأميركية التي كانت تدعى حينذاك «الكلية السورية الأنجيلية» ونال شهادة بكالوريوس، علوم تجارية في 21 حزيران عام 1911. أما هي فقد ولدت في شارع جاندارك وعن ذلك الشارع وأهله تروي لنا القصص الشيقة.
خلال صفحات هذا الكتاب الشائق، نعرف قصة آل بوست المرسلين الإنجيليين الأوائل للجامعة الأميركية في بيروت. وكيف تربت جدتها مريم في كنفهم. نعرف عن طائفة البروتستانت ودورها في راس بيروت. أو ما أسمته الكاتبة «حياة رأس بيروتية بروتستانتية الجماعة الأوادم». ونعرف عن انطون سعادة في بداياته في رأس بيروت، في الثلاثينيات، «أبو اللحية» الساكن في كوخ الجنيناتي في مبنى الدكتور جرجس المقدسي، والذي بدا مختلفا في مسلكه وترك تاثيره القوي في ارقى شباب راس بيروت وأكثرهم ثقافة وخصوصا في الجانب القومي العلماني. ونعرف عن زمان الجامعة الأميركية في الأربعينيات والخمسينيات والأساتذة الكبار أمثال الشيخ سعيد حماده وجورج حكيم وشارل مالك وأنيس فريحة والدكتور قسطنطين زريق وعدنان باجهجي وغيرهم. وكذلك مطعم فيصل الشهير وامتداده الحيوي لأجواء الجامعة ومناخاتها. نعرف أن بهيج المقدسي (خال الكاتبة) هو الذي صمم ورسم الزوبعة كشعار معتمد للحزب السوري القومي الاجتماعي.
وتقدم الكثير عن الدور التنويري والتربوي الذي لعبته مدارس البروتستانت في رأس بيروت وفي تقدمها وتنميتها (ابتدائية مس أمينة والمدرسة الأهلية وغيرها). نقرأ عن كمال الصليبي الذي يمتلك ذاكرة خارقة، وقال للكاتبة في زمن اليفاعة انه اذا انجب ولدا فسيسميه «سيف البروتستانت» رداً على «سيف الاسلام» و«عضد الاسلام». وعن الفنان صليبا الدويهي في بداياته. وعن هيلن ويوسف الخال في «خميس شعر» والبيت والمرسم. وعن عبقري الرياضيات «مايكل عطية» الطفل الذي كان يذهل الحضور في سرعة عملياته الحسابية.
تقول للصحافي اللامع كامل مروة العائد من جولاته الافريقية بالاسرار والحكايات «ضيعانك ما تكون من راس بيروت».
نقرأ عن فارس بك الخوري واحمد الأسعد وإميل البستاني وعبد الحميد كرامي ومنح الصلح وفاضل الجمالي في صور وملامح. نعرف عن الأولاد الذين كبروا في صحن الدار وتعلموا ونجحوا وتوزّعوا في أنحاء العالم. تكاد تسمع معها في زمان بيروت الجميل «بائع الشتل» ينادي «ياغندورة» و«كعكات حسن طيّبين». نرافق الكاتبة منذ ذلك العيش الدافئ المدهش الهنئ في الحديقة واللعب مع الاتراب.
الى دخول المدرسة والجامعة والزواج المختلف، والمعاناة من الحروب والظلم والقمع والهجرات. وحتى حين تعود إلى مسقط رأسها في «راس بيروت» وتتغير المعالم ويهجم الباطون ولا يبقى لها سوى ان تردد «أنا هنا أرى المكان والأشياء بعيوني وقلبي».