أيمن نبيل غانم يرى أن الجنس هو المرادف الأكثر وضوحًا للحياة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

 

 

تحمل تجربة أيمن نبيل غانم قاصا وروائيا وأيضا صحفيا متخصصا في السياسة الدولية ثراء وتنوعا واضحين، يمكن متابعتهما بتجل واضح في أعماله على مستوى السرد والقضايا المعالجة والشخصيات والأماكن مسرح الأحداث، حيث تشتبك رؤيته مع الواقع الإنساني المعاش وما ينعكس عليه من أحداث وتأثيرها على التركيبة الاجتماعية والنفسية والفكرية والعلاقات بين الأفراد.

 

وقد أصدر أخيرا عن دار الأدهم مجموعته القصصية “رقصة القرد العجوز” ومن قبل رواية “الرحلة” عن نفس الدار، وقد كان لنا معه هذا الحوار حيث نبحر معه من البدايات مع الإبداع مرورا بالعمل الصحفي وانتهاء برؤيته للحركتين الثقافيتين في كل مصر والكويت حيث يعمل صحفيا بجريدة السياسة.

 

بداية قال غانم “اهتمامي بالإبداع بدأ في فترة مبكرة مرتبطًا بحبي للقراءة، وكنت محظوظًا بتوفر مكتبة لدى والدي، كما أن توفر الصحف والمجلات بشكل يومي في المنزل جعلني مرتبطًا، وما أذكره أن الصحف لم تغب عن المنزل أبدًا إلا في مرض والدي الأخير حيث لازم الفراش ولم يعد يذهب إلى مدينة المنصورة يوميًا كما كان يفعل دائمًا، إلا أن منشورات دار الهلال هي التي رجحت لديَّ كفة الكتابة الابداعية، فوالدي كان يُحضر من المنصورة كل ما يصدر عن هذه الدار؛ مجلة الهلال وكتاب الهلال والأهم روايات الهلال، وقد بدأت تجربة كتابة الشعر والقصة في المرحلة الثانوية، لكن “الهلال” هي ما عززت ميلي للقصة.

 

ونظرًا لغياب المراكز الابداعية عن القرى، وغياب الرعاية في المدرسة، حيث يمكن التعرف جيدًا على الطريق والحصول على نوع من التوجيه والتقييم فقد وضعت كتابتي الإبداعية دائمًا محل شك وتساؤل، إلى أن ذهبت إلى الجامعة والتحقت بنادي الأدب في جامعة المنصورة، وبدأت الذهاب إلى قصر ثقافة المنصورة وحضور المنتديات الأدبية، ومن حسن حظي أن المنصورة كانت عامرة بحركة أدبية فاعلة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي جمعت بين أجيال مختلفة.

 

وما أعتبره بداية حقيقية رسخت لديَّ القرار بالاستمرار في الكتابة الإبداعية هو حصولي على المركز الأول في مسابقة القصة التي نظمتها الجامعة، وبعدها بدأت ارسال بعض القصص إلى الصحف وتم نشرها.

 

الدخول إلى عالم الصحافة

 

أما دخوله إلى عالم الصحافة فيشير غانم “الإبداع هو ما قادني إلى الصحافة، حيث التحقت بمجلة جامعة المنصورة عن طريق نادي أدب الجامعة ثم بدورية صحفية أدبية تصدرها مديرية الشباب، وبدأت في الاطلاع على العديد من الكتب حول الصحافة والاخراج الفني الصحفي وذهبت إلى إحدى المطابع لأطلع على كافة مراحل التجهيز الفني التي تسبق الطباعة، بتوجيه من أحد أعضاء مجلس تحرير الدورية، وبدأت في الذهاب إلى صحيفة الجمهورية والتقيت د. فتحي عبدالفتاح، لكن دراستي في جامعة المنصورة وضعف امكاناتي المادية منعتني من اقتناص فرصة الجمهورية، فقد كان أمرًا مستحيلًا بالنسبة تدبر تكاليف السكن والمعيشة في القاهرة، وهو السبب ذاته الذي دفعني للسفر خارج مصر فور إنهاء دراستي والعمل في الصحافة الكويتية لتستمر غربتي حتى الآن لأكثر من 18 عامًا”.

 

تأثير الصحافة

 

وحول تأثير الصحافة على رؤيته وأسلوبه أكد أن تجربته الصحفية شديدة الثراء، وأضاف “المصادفة لعبت دورًا في ذلك ففي الكويت حاولت الاستمرار في الصحافة الأدبية لكن على غير إرادتي تم تحويلي إلى قسم الخارجيات المسؤول عن تغطية الأخبار العربية والدولية فواكبت التغيرات الكبيرة في القضية الفلسطينية وسقوط صدام حسين في العراق والكثير من الأحداث، كما اكتسبت خبرة كبيرة على مدى عشر سنوات من العمل المتصل في صحيفة السياسة الكويتية بالتيارات السياسية في المنطقة.

 

ثم قررت بإرادتي ترك العمل في الخارجيات بعد أن أصبت بحالة من الضيق الشديد كاد يمنعني عن المهنة نهائيًا، والسبب في ذلك هو تغطيتي لأخبار العراق حيث كنت أظل طوال اليوم أتابع أعداد القتلى لتثبيت حصيلة نهائية، وكنت أقوم مضطرًا بفرز مئات من الصور البشعة المتعلقة بالعراق وغيرها من مناطق الاضطرابات في العالم لجثث مكتملة وممزقة حتى أختار عددا من الصور لنشرها، واتجهت للعمل في قسم الاقتصاد مستفيدًا من اهتمامي المبكر بمتابعة التقارير الاقتصادية ودراستي العليا بعد الجامعة حيث تخصصت في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي قبل أن أتجه إلى العلاقات الدولية، وباعتباره قسمًا لا يشهد عادة أحداثًا ساخنة، لكن ما حدث كان عكس ما توقعت، فبعد فترة انفجرت أزمة الرهن العقاري ثم الأزمة المالية العالمية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية طاحنة، وكما يقال رب ضارة نافعة، فعبر سنوات من تغطية الأزمة وتداعياتها دخلت الكثير من العوالم الخفية وتابعت حالات إنسانية في بيئة يحلو لبعض المتعجلين في إصدار الأحكام بوصفها باللاإنسانية.

 

والخلاصة أن تجربتي في الصحافة اليومية لـ 18 عامًا أكسبتني الاهتمام بتكوين الرؤية من زوايا عدة والاهتمام بما هو تحت السطح والأهم أنها أكسبتني الاهتمام بالتواصل مع القارئ واللجوء إلى لغة تعزز هذا التواصل، إلى جانب أنها مكنتني من التواصل مع فئات اجتماعية ما كان لي أن أعرف حياتها من منظورها هي، فبدون الصحافة الاقتصادية التي مازلت أمارسها حتى الآن ما كان لي أن أعرف عن قرب حياة أشخاص يملكون مليارات الدولارات، وهذا على سبيل المثال فقط، وبالفعل فإن روايتي الجديدة التي لم أنشرها حتى الآن تعكس تمامًا استفادتي من الصحافة الاقتصادية وعالم المليارات الذي أغطي أخباره”.

 

الغربة ومعايشة الأحداث

 

وأوضح غانم “تجربتي الشخصية مع الغربة بدأت قبل عملي في الصحافة الكويتية بسنوات، فقد كان أمرًا معتادًا أن يسافر طلاب الجامعة من أبناء قرى المنصورة إلى العراق للعمل فيها، إلا أن اندلاع حرب الخليج الثانية بعد احتلال صدام حسين للكويت أوقف ذلك، وكانت لديَّ فرصة للسفر إلى اليونان، حيث تلقيت دعوة رسمية من مديرة فرقة للفنون الشعبية لإحدى الجزر اليونانية كنت مكلفًا بمرافقتها أثناء الانتقال من الفندق إلى قصر ثقافة المنصورة، وبدلًا من ذلك سافرت إلى الأردن بجواز سفر يصدر لطلاب الجامعة ومدته ستة شهور فقط، ولم تكن نتيجة اختبارات نهاية العام الأول لي في كلية الآداب قد ظهرت بعد، وقد جسدت هذه التجربة في روايتي “الرحلة” الصادرة عن دار الأدهم في العام 2013.

 

ولا يجوز لي أن أُقيِّم أحد أعمالي، لكن بعيدًا عن أية اعتبارات نقدية أقول إن لهذه الرواية أهمية كبيرة فأحداثها تدور في ظرف تاريخي معقد وفاصل في التاريخ العربي المعاصر وهو نهاية حرب الخليج الثانية وبداية سقوط العراق وانقسام العرب إلى معسكرات وتعاظم حالة الكراهية الشعبية المتبادلة، والأهم التحولات في المجتمع المصري في ظل انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي والاقتصادي والذي بدأت ملامحه تظهر بوضوح منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كما أنها تصور حوادث غرق العبارات المتهالكة والتي لم ينتبه الاعلام لها إلا بعد كارثتي “سالم اكسبريس” و”السلام”، لاسيما أن مشاهد تعرض العبارة للغرق التي تصورها الرواية عايشتها بنفسي وما جاء فيها هو أقل بكثير مما عانيته”.

 

المجتمعان الكويتي والمصري

 

وحول رؤيته للمجتمعين المصري والكويتي قال غانم: لدى المغترب رؤية شاملة وأكثر وضوحًا لجهة رصد التحولات في المجتمع المصري، فرؤيته ربما تكون أكثر عمقًا من المقيمين على أرض الوطن، فالأمر أشبه بمن ينظر من شرفة مرتفعة إلى شارع أسفله فيرى كافة التفاصيل، كما أن من يعيشون هذه التحولات عادة يصبحون جزءًا أصيلًا منها ويصعب عليهم الفرز، لكن المغترب الذي يزور وطنه كل عام يستطيع أن يدرك على الفور هذه التحولات، لكنه ربما لا يكون على إدراك لأثر هذه التحولات ووطأتها مثل أولئك الذين عايشوها.

 

وبالنسبة للمجتمع الكويتي فليس لديَّ أعمال منشورة من وحي الحياة فيه باستثناء قصة “غفور رحيم”، فهى الوحيدة في مجموعة “رقصة القرد العجوز” التي تنتمي إلى تجربة عملي في الكويت، وإن كان هناك أعمال تنتمي إلى هذه التجربة لكني لم أنشرها بعد بما في ذلك الرواية الجديدة.

 

حالة الهوس الجنسي

 

ورأى غانم أن الجنس بالنسبة له المرادف الأكثر وضوحًا للحياة لا سيما بالنسبة للبسطاء الذين تضيق اختياراتهم في هذه الحياة، ولا أربط بينه وبين الغربة تحديدًا، فكثير من المغتربين في دول عربية يصطحبون زوجاتهم، وما أراه من صلة بين الجنس والغربة تحت عنوان “الكبت” هو كبت الحياة ذاتها، فمن السهل أن يحلوا مشكلتهم مع الجنس باصطحاب زوجاتهم لكن تظل حياتهم مؤجلة، فالمغتربون بغرض العمل سافروا بالأساس وفي ذهنهم أن الأمر مؤقت ومن ثم يعيشون حياة مؤقتة غير مكتملة انتظارًا للعودة إلى الوطن وممارسة حياتهم الانسانية الطبيعية، لكن حلم العودة لا يتحقق، ومن المعتاد أن تستقبل قرى مصر جثث أشخاص سافروا شبابًا وعادوا كهولًا وشيوخًا في توابيتهم، وفي قصص “القماش الرجالي” و”كل ما تريده” من مجموعة “رقصة القرد العجوز” فقد نظرت إلى الكبت الجنسي كمعادل للقهر الاجتماعي، فقد كتبت هاتين القصتين قبل تجربة الغربة، وفي قصة “حياة” من نفس المجموعة، والتي تصور ليلة عرس ولحظة دخلة يوقفها الصراخ بعد الوفاة المفاجئة للجار نظرت إلى الجنس كانتصار للحياة على الموت.

 

الأدباء المغتربون

 

وأوضح أن هناك أهمية كبيرة لإبداعات المغتربين، وقال غانم: نحن لم نعد مثل السابق أمام مفهوم أدباء المهجر الذين يعبرون عن أشخاص بأعداد محدودة يعيشون في بيئات غريبة تمامًا أصبحوا جزءًا منها لكنهم ظلوا يحملون معهم ثقافتهم العربية ووجدانهم، أما المغتربون حاليًا أعدادهم بالملايين ويعيشون في جاليات ضخمة ما يمكنهم من حياة مشابهة إلى حد ما لتلك التي تركوها في الوطن، لكنها مشوهة إلى حد ما، فليس متاحًا أمامهم حتى ولو أرادوا ذلك أن يصبحوا جزءًا من البيئات التي يعيشون فيهم، ومن ثم يعيشون على هامش المجتمعات التي يتواجدون فيها، كما أنهم لم يهاجروا من باب المغامرة أو البحث عن فرص لتحقيق الذات، فالغالبية العظمى من المغتربين حاليًا هاجروا عبر باب الاضطرار وهدفهم وظائف ودخول مادية، ومصير ملايين المصريين في حياتهم اليومية مرتبط بالمغتربين، وعلينا ألا ننسى أن المصدر الأول للنقد الأجنبي في مصر هو تحويلات المغتربين، هذه الحالة التي يشهدها المجتمع المصري منذ عقود أعتقد أن أفضل من يعبر عنها هم الأدباء المغتربون.

 

الرواية والقصة

 

وحول تأثير رواج الرواية على القصة القصيرة أكد غانم أن هناك ابداعات قصصية لا تقل إمتاعًا وتأثيرًا عن الرواية، لكن للأسف عدد كبير من تجارب المبدعين المعاصرين في القصة القصيرة التي امتلكت الفرصة للخروج إلى النور بحكم الانتماءات و”الشلل الثقافية” ليس لديه القدرة على جذب جمهور من خارج دوائر المبدعين أنفسهم، لأنهم لا يهتمون بالخروج بإبداعات مكتملة تقدم أفكارًا وحالات انسانية غير مبتورة، وما ألاحظه كنظرة خاصة لا تحمل رؤية نقدية أن هناك هوسًا باتباع “آخر صرعة” والانشغال بالتجريب فيما يتعلق باللغة والحجم، حتى أن كثيرًا منها أصبح على مسافة قريبة من قصيدة النثر، إلى جانب التعقيد والغموض والفهم الخاطئ للتكثيف، وكأن التجريب حرفة وافتعال، كما أن هناك ادعاءً أنهم على صلة بتجارب عالمية، وهذا ليس صحيحًا تمامًا، ويكفي أن تقرأ لأي مبدع غربي ممن يشيرون إليه حتى تُفاجأ بسهولته ووضوحه والاستمتاع بنصه والتفاعل معه، بينما البعض لدينا يقولون ما لا يفعلون.

 

وكون أن الرواية أكثر رواجًا من القصة القصيرة أرى أنه يعود إلى ما يتيحه حجم الرواية من تقديم تجارب انسانية مكتملة وتصوير واضح للزمن الذي يعد من العناصر الرائعة في القصة، ولا يمكن للقصيرة منها أن تستوفيه بسهولة، ولنجاة الرواية بمساعدة من حجمها أيضًا من الغموض المفرط والفذلكة في اللغة والشكل. ومع ذلك تظل العبرة في قدرة النص على استيعاب الحالة الانسانية والمعنى، وخير مثال على ذلك هو جابرييل جارثيا ماركيز فقد قدم تجارب انسانية مكتملة بصرف النظر عن حجم النص، وأمكنه دائمًا أن يمسك بوجدان القارئ سواء في رواية ملحمية أو متوسطة الحجم أو قصة قصيرة أو قصيرة جدًا.

 

المشهد الثقافي الكويتي

 

ولفت غانم إلى أن هناك صلة كبيرة بين الواقعين الأدبي في الكويت ومصر وذلك للارتباط التاريخي الذي بدأ في أربعينيات القرن الماضي وبلغ ذروته في ستينياته لذلك فان حالة الركود الثقافي وضعف تأثير المثقفين في المجتمع المصري ستجدها موجودة أيضًا في الكويت، ومن حسن الحظ أن الكويت مازالت مستمرة في تقديم الدعم للثقافة العربية عبر العديد من المطبوعات الثقافية والأدبية الرصينة التي توزعها في الدول العربية بأسعار تقل عن تكلفتها، وربما يكون الواقع الثقافي في الكويت قد بدأ نهضة على يد مجموعة من الشباب الذين امتلكوا الجرأة على سبر غور المجتمع الكويتي وكسر “التابوهات”.

 

دور المثقفين المصريين

 

وأسف غانم إلى أنه عام بعد عام يلاحظ انحسار دور المثقفين المصريين في المجتمع وضعف تأثيرهم في المدن والقرى وابتعادهم عن الإعلام أو ابتعاد الإعلام عنهم، فالنتيجة واحدة.

 

وقال “أكثر ما يحزنني هو غياب التجمعات الثقافية شبه الجامعة، لاسيما في الأقاليم، فالواقع الثقافي الآن أشبه بـ “الجيتوهات”، ففي المنصورة على سبيل المثال كان المبدعون موزعين على منتديين أو ثلاثة، وكان طبيعيًا أن ينتقل المبدع بين هذه المنتديات بتوجهاتها المختلفة ولو من باب الفضول، الآن تنتشر العديد من التجمعات المحدودة المغلقة على نفسها ولا تهتم بالتواصل مع غيرها في نفس المدينة أو حتى بالوصول إلى الجماهير”.

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى