أيّام في باريس

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جودت فخر الدين
المصدر: السفير
إنها رحلتي الخامسة إلى باريس. وقد بدأتُها، كما في كلِّ مرّة، مدفوعاً بحماستي للصورة التي تكوّنتْ لي عن هذه المدينة الفريدة. وحماستي هذه باتت مدعومةً بمعرفتي بمسالك المدينة، وبرغبتي في التنـــقّل في أرجـــائها. فكم هو ممتعٌ المشْيُ عبرَ شوارعها التي تقودُ من فتنة ٍ إلى أخرى.
التجوُّلُ في باريس، عبرَ الشوارع والجادات التي تحتضنُ نهرَ السين، وتتركُ له أنْ يتجوّل هو الآخَر في منعطفاتها النابضة، إنما هو كالمشاركة في عيدٍ أو احتفال ٍدائم. هذا ما اختبرتُهُ في كل زيارةٍ من زياراتي إلى باريس، التي قال عنها همنغواي إنها عــرسٌ متـنقلA moveable feast . وهذه العبارة هي عنوان الكتاب الذي وضعه عن تجربته الباريسية، شارحاً فيه أنّ المرء يكون محظوظاً إذا زار باريس في شبابه، لأنها ستبقى معه بعد ذلك، أينما ذهب.
وأنا كنتُ محظوظاً. فقد جئتُ إلى باريس أوّلَ مرّةٍ في الثالثة والعشرين من عمري. وظلّت صورتها حيّةً في ذهني، وخصوصاً في أسفاري التي ذهبتْ بي شرقاً وغرباً. وعندما جئتُها ثانيةً، بعد خمس ٍوعشرين سنة، وجدتُني أعرفها. وجدتُها جديدةً ولكنّها لم تتغيّر! ربما تكمنُ هنا فرادتُها، فهي العريقة المتجدِّدة. والحيويةُ التي تخفقُ في أنحائها تأخذ بيدك وتقودك في كلِّ اتجاه.
إنها المدينة الحقّة. وكم هو مُحِقٌّ مَن وصفَها بأنها مدينة العالم. فيها تتلاقى الشعوب والأجناس والثقافات، وكلٌّ يتقبّلُ الآخَر. إنها المختبَرُ الإنسانيُّ الذي لا يهدأ. إنها الدعوةُ الدائمة إلى إعادة اختبار الذات والآخَر.
في زياراتي الثانية والثالثة والرابعة، كنتُ دليلاً لنفسي في باريس. وكنتُ ألتذُّ باستكشاف الأماكن التي مررتُ بها سابقاً، لألقاها قديمةً حديثة. وفي هذه المرة الخامسة، لم أكنْ دليلاً لي وحدي، وإنما كنت دليلاً أيضاً لزوجتي ولأختيْن لي.
كانت بهجتي عارمةً وأنا أستعملُ خبرتي في التنقّل، خصوصاً بواسطة مترو الأنفاق. كنت مبتهجاً بكوني دليلاً لي ولهنّ، لزوجتي وأختيّ. ما إنْ ننزل إلى إحدى محطات المترو حتى أبدأ بالشرح لهنّ على خريطة الشبكة، لكي يعرفْن من أين ننطلق وإلى أين سننتهي. وما إنْ نصعد من المحطّة حتى أبدأ بالشرح لهنّ على الأرض. هكذا مررْنا بأبرز المعالم، وجبْنا الكثيرَ من الشوارع. كنّا نمشي ونمشي إلى أنْ يأخذَ التعبُ منّا كلَّ مأخذ، فندخل أحدَ المقاهي أو المطاعم. نستريح ثمّ نستأنف مسيرتنا، مستفيدين من الطقس المشمس الذي حظينا به.
سببُ الرحلة هذه دعوةٌ وُجِّهتْ إليَّ من دار المعلمين العليا في باريس Ecole normale superieure، التي تُشرفُ على برنامج تعليم اللغة العربية فيها الصديقةُ هدى أيوب. إنها صديقتي منذ كنّا طالبيْن في كلية التربية في الجامعة اللبنانية أوائل السبعينيات من القرن الماضي. صداقةٌ قديمةٌ تربطُنا ولا تزال تتعمّق وتتجدَّد. والمعهد المذكور عريق جدّاً، تخرَّج منه الكثيرون من الأدباء والعلماء والسياسيين الذين أثّروا في الحياة الثقافية الفرنسية. وهدى عملتْ على مدى أكثر من ثلاثين عاماً على تزويد طلابها، من أصحاب الاهتمام باللغة العربية وشؤونها، بإمكانات التقدُّم والبحث في مسالك هذه اللغة. وهنالك من طلابها اليومَ باحثون منتشرون في فرنسا وفي خارجها.
وُجِّهتْ إليَّ الدعوة لإحياء أمسيةٍ شعرية في المعهد في 12 نيسان. وقد أعدَّتْ هدى مع خمسة ٍمن طلابها لهذه الأمسية بترجمة قصيدةٍ لي عنوانُها «حديقة الستّين»، وتتألف من تسعة مقاطع. كان جوُّ الأمسية لطيفاً ومشجِّعاً ونابضاً بإنصات الحاضرين الذين بلغوا بضع عشرات. كنتُ أقرأ المقطع من القصيدة بالعربية، ثم يأتي أحدُ الطلاب الخمسة ليقرأه بعدي بالفرنسية (كانوا
أربعة شبّان وفتاة من اختصاصات ٍمختلفة، بعضهم من أصول ٍعربية).
لقد راق لي أنْ أقرأ من شعري أمام جمهورٍ غامضٍ بالنسبة إليّ، أمام جمهور لا أعرف عنه شيئاً، إلا أنه سرعان ما أبدى حماسةً وتجاوباً. لقد فرحتُ بالصيغة الفرنسية لقصيدتي، كما أُعجبتُ بإلقائها من قِبَل الطلاب. تعرَّفتُ بعد الأمسية إلى بعض الذين حضروا، ولم يكنْ بينهم سوى لبنانيتيْن: الأولى طالبةٌ علمتْ بالأمسية من أبيها المقيم في بيروت، وهو صديقٌ لي. والثانية سيّدةٌ تهتمُّ بالأدب، وهي مقيمةٌ في باريس منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وزوجُها يملكُ مطعماً لبنانياً في منطقة ٍراقية ٍقريبة ٍمن الشانزليزيه.
جرت الأمسية في سياق الأسبوع ِالثقافيِّ العربيِّ الذي يدأبُ المعهدُ على إقامته سنوياً. وفي خلاله يتمُّ اللقاءُ بين ثقافتيْن أو أكثر. ومحورُ هذا اللقاء اللغةُ العربيةُ وآفاقُها الثقافية.
في القاعة نفسِها، التي جرتْ فيها الأمسية، كنت قد استمعتُ في العام 2002 إلى محاضرةٍ لإدوار سعيد، ألقاها باللغة الفرنسية، وكان موضوعها المنفى وثقافة المنفى. أذكرُ أنّ الجمهور كان غفيراً، ضاقت به القاعة، كما ضاقت به الممرّاتُ في خارجها. وأذكرُ أيضاً أنّ الحوارَ الذي دارَ بين إدوار سعيد والحاضرين ـ وجلُّهم من العرب ـ أبرزَ ملامحَ التخبُّطِ الذي يعيشُهُ المهاجرون بين الشكوى والانعتاق، بين الشعور بالاقتلاع والشعور بالامتياز.
انطلاقاً من ذكرياتي إزاء محاضرة إدوار سعيد، رحتُ أتساءل: ماذا تفعلُ باريس بالقادمين إليها من العالم الثالث؟ هل هي المنفى؟ هل هي منفىً كغيرها من المنافي؟ ألا يكون المنفى أحــــياناً ـ بل في معظم الأحيان ـ فرصةً نادرةً للتعرُّف إلى الذات والآخَر؟ ألا ينبغي لثقافة المنفى أنْ تكون أغنى من ثقافة الإقامة في أوطانٍ يمزِّقها الفسادُ والصراعاتُ الفئويةُ والنزاعاتُ المذهبية؟
بدا لي وأنا أتجوّلُ في باريس أنها كثيرةٌ جدّاً، كثيرةٌ على ساكنيها، من الفرنسيين وغير الفرنسيين. بدا لي أنّ مدينةً كهذه لا تختصُّ بأحد، لا تختصُّ بشعبٍ أو لغةٍ أو ثقافةٍ أو حضارة. أهي المدينة النموذج؟ أم هي الوهْم الأجمل بين مدن العالم؟