أيّهما المُدان وأيّهما الضحيّة… مسألة خلاف بين شخصيّتَي الفيلم

الجسرة الثقافية الالكترونية –

سليم البيك

لا بد ان تراعي الكتابة عن فيلم كـ «فتاة راحلة»(Gone Girl)حداً أدنى من الحذر لما يحتويه الفيلم من تفاصيل ضمن أحداثه، مترابطة بشكل يحيل أياً منها إلى الأخرى، وبحيث يصعب الحديث عن الفيلم دون الإشارة إلى بعض هذه الأحداث.
هذا أولاً لخصوصية الحبكة التي بُني عليها الفيلم، والمأخوذة عن كتاب بالعنوان نفسه للكاتبة الأمريكية جيليان فلين، نُشر عام 2012 وكان من الأكثر مبيعاً.
وهو ثانياً لميزة عامة تجمع الروايات/الأفلام المبنيّة على جرائم وتحقيقات وما يلفّ ذلك من تلغيز يتطلّب فكّه متابعة «مفاتيح» متلاحقة، سأحاول جاهداً هنا ألا أمرّ بها كي لا أفسد بعض عناصر الدهشة في الفيلم. لكن تبقى هنالك تفاصيل معيّنة سيستحيل الحديث عن الفيلم دون الإشارة إليها، لذلك أقترح إكمال المقالة بعد مشاهدة الفيلم إنْ كانت ثمّت نية لمشاهدته.
بالألوان والصور المعتمة، أكانت تصويراً ليلياً أم نهارياً بيتيّاً، لم يبتعد مخرج الفيلم، الأمريكي ديفد فينتشر عن أجواء الحبكة وما تتطلبه طبيعتها من غموض، يعكسه كذلك ملصق الفيلم، ألوانه وعتمته، وهو كذلك لم يبتعد عن الشخصية الكئيبة السوداوية لأبطاله، نيك دون (بين أفليك) وآمي دون (روزاموند بايك). يعيشان منعزلان، لا أصدقاء لهم، يمضون وقتهم بالقراءة والكتابة في بيت واسع، إنارته خفيفة ويقع خارج المدينة. الشخصيّة المحرّكة في الفيلم هي آمي دون، زوجة نيك المضطربة عقلياً كما يبدو، «سايكوباثية»، وكاتبة ناجحة تعاني معه من زواج متأزّم، فتحاول ان تجد بمهارتها التأليفيّة مخرجاً من حياتها مع نيك تكون نهايته فيها الحكم بالإعدام دون ان تضطر لتكون هي قتيلة.
تحيك آمي جريمة لا تُرتكب على ان ينال المجرم المفترض عقاباً بالإعدام، في ولاية ميسوري التي تصدّق على عقوبة كهذه لجريمة القتل. تعمل على تدبير إطار مكتمل للجريمة، تصنع كل الدلائل التي تشير إلى زوجها وتُلحقها ببعضها، بما في ذلك دماؤها وأداة القتل الملطّخة بهذه الدماء.
التفاصيل التي عملت عليها لإغلاق إطار الجريمة دون منافذ توصل لغير زوجها كمُدان وحيد، تظهر براعتها في الكتابة الخيالية وتبرّر نجاحها كمؤلّفة لها محبّون سيؤسسون ناديا للبحث عن جثّتها وتشكيل قوّة ضغط، وخلف ذلك تظهر الشغل المحكم الذي قام به مؤلّف الرواية، «فتاة راحلة».
الفيلم (149 دقيقة) الذي بدأت عروضه في الصالات الأوروبية قبل أيام، يبدأ بصباح «ارتكاب الجريمة» وينتهي بعد أسابيع قليلة حين ترى آمي ان الأبواب أغلقت أمامها وان عليها ان تجد «خطّة ب» لما قامت به، فتعود لزوجها مستكملة حبكتها وتعقيدها لحياته، ما بدأته في اليوم الأول من اختفائها حيث انقلبت حياته حين صار المتهّم الأول بقتلها. في مرحلة من الفيلم يُقبض عليه بهذه التهمة بعد ان تجد الشرطة أداة الجريمة، وسيجرّه ذلك لحكم الإعدام.
هل كان نيك الرجل الجيّد في الفيلم؟ لا. هو ان لم يكن قاتلها (سنعرف ذلك في مرحلة مبكّرة نسبياً من الفيلم) فهو لم يكن زوجاً جيّداً، تلخّص ذلك علاقة أقامها مع طالبته لأكثر من سنة كان متزوّجاً خلالها من آمي. وهذه حقيقة انطلق منها نيك في لقطة قلبَ فيها الطاولة على آمي التي كسبت تعاطفاً إعلامياً وجماهيرياً خلال أيام البحث عن «جثّتها»، حين قال في لقاء تلفزيوني أنه يحبّها، وان كونه ليس مجرماً لا يعني ان يكون رجلاً جيّداً، وانه لم يكن جديراً بآمي. هذا اعتراف بحقيقة أظهرته بموقع الضعيف المعترف بخطئه والأحمق، كما نصحه محاميه ان يظهر إعلامياً، ممرراً بذلك حقيقة أخرى أراد إيصالها إلى الناس كمسلّمة هي انه لم يكن قاتلها. سيتعاطف الناس معه هنا كزوج أحمق يعترف بخطئه، وسيستسيغون بذلك فكرة انه ليس قاتلها. والمسألة بقدر كبير منها مسألة رأي عام كما أصرّ المحامي.
اتّهم البعض الفيلم بالتحيّز ضد النساء (misogynist)، للشخصية المرَضية لآمي وللتعاطف الذي يناله نيك من بدايات الفيلم حتى نهايته، وان تخلّل ذلك خيانته لزوجته وبروده في التعامل معها، فظهور عشيقته في الفيلم يأتي في سياق ما تحيكه آمي لزوجها وما يتعرّض له من اتهامات المحقّقين من جهة وهجوم الإعلام والمجتمع المحلّي هناك من جهة أخرى، وما سينتج عن ذلك.
لن يكون دقيقاً القول أن الفيلم متحيّز ضد النساء ومسيء لهنّ، المسألة ببساطة متعلّقة بشخصية مضطربة «سايكوباثية» تعاني من خيانة وبرود زوجي، وتتمتع ببراعة في حبك القصص وبخيال واسع، فحصل ما حصل، وتبديل المواقع بين الرجل والمرأة هنا لن يغيّر شيئاً. وان أخذنا الشخصية المرَضية لآمي (قد لا يعتبرها أحدنا مرضية) مضيفين عليها حقيقة خيانة زوجها وإهماله لها (وهو تفصيل ضمن سياق الفيلم)، قد نجد من يبرّر سلوكها متعاطفاً معها كضحيّة، ويكون هو المدان أخيراً ومستحقّاً ما فعلته به. هذه نقاشات مفتوحة دائماً بآراء تختلف حسب رؤية وإدراك أحدنا لتفاصيلها. وآمي بالنهاية تثير الشفقة بقدر ما يثير نيك التعاطف فيما يخصّ مسألة «الجريمة» بالتحديد.
الفيلم مثال موفّق على نقل الأدب إلى السينما، وهو نقل غالباً ما يخيب فيه صانعو الأفلام، أذكر هنا ان كلاً من الرواية والفيلم اختلفا في الفصل الثالث، وهو الختامي، والذي شارك في كتابته بين أفليك، الممثل والمخرج وكاتب السيناريو المميز.
قد لا يخرج المُشاهد من الفيلم بحالة مستقرّة، قد يتعاطف أحدنا أكثر مع نيك، الضحيّة المباشرة في الفيلم، لكنه سيتوه بسلوك وشخصية نيك كما آمي التي ستنال قدراً من الإعجاب بدهائها كذلك. بكل الأحوال، الكيفية التي تنتهي بها قصّتهما ويكملان بها حياتهما، اللقطات الأخيرة من الفيلم، «الخطّة ب» لآمي، عودتها التي انقذته من حكم بالإعدام وحبسته في جحيم آخر، ما ستفعله حينها سيجعل من نيك الرجل «غير الجيّد»، الجيّد بينهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى