إشْكَاليّة التّعْمِيم الثّقافيّ .. د. حازم مقدادي

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

 

ينطوي مفهوم الإستعمار بمعناه النظري على جانبٍ إيجابيٍ يدفع الكثيرين لتجنب إستخدامه ، في سياق إدراكهم و رفضهم لِمَعْنَاهِ الواقعيّ المُمَارَس ، إذ أن المعنى اللُّغوي لتلك الكلمة مرتبط بمفردات كـ “العَمَارِ” و “التّعْمِير” ، و هي مفرداتٌ تُستخدم في إطار ذي مدلول إيجابي ، على العكس تماما من مدلولها السياسي و المَصَالِحِيّ الذي يعني “السيطرة” و “بسط النفوذ” ، و ما يتطلبه ذاك من تضييق و تأطير للحريات. إن كلمة الإستعمار ، بإختلاف إستخداماتها و غاياتها ، هي ترجمة للكلمة الإنجليزية (Colony) و المشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية (Colonia) التي كانت تعني حتى القرن الرابع عشر: “زراعة الأرض”. غير أن هذا المفهوم شأنه شأن بقية المفاهيم التي تتطور تبعا لعالَمٍ ديناميكي لا يهدأ أبدا ، جاء تَطَوُّرُهُ في سياق الإستجابة للمتطلبات السياسية و الإقتصادية تلك التي أمْلَتْها مصالح القوى الرأسمالية في محاولة منها لتجيير مُخرجات الثورة الصّناعية لصالحها بعد أن إستطاع العُمَّال في مختلف أنحاء الدول الصناعية إنتزاع حقوقهم و توسيع هامش إِنْصَافِهم. فَتَحَوَّرَ ذاك المفهوم اللاتيني الأصل إبان القرن الثامن عشر ، ليُصبح:  “تعمير أرض خارج الوطن” ، مما يُظهر و بوضوح النوايا التّوسعية الكامنة وراء هذا الفهم الجديد لكلمة (Colonia) ، و السعي نحو الإلتفاف على المُكتسبات التي حققها العمال في دُوَلِ رأس المال. إن الغاية الأساسية وراء إستخدام هذا المصطلح تكمن في إمكانية توظيفه بالإعتماد على ما يكتنفه من معنى إيجابي ، مما جعل منه مصطلحا مناسبا جدا لتحقيق إطار قانوني يوفر الشرعية المطلوبة لعمليات التوسّع المُرتجاة ، و يضيف لها عمقا إنسانيا و تكافليا. فإستخدام مُفردة “الإستعمار” يحقق مصالح القوى التوسعية في إطار مباديء و مواثيق عُصبة الأمم آنذاك ، التي إستَحْدَثَت بدورها مفهوما جديدا للإستعمار هو “الإنتداب” و الذي بدوره وَسَّعَ من صلاحيات المستعمر و مَنَحَهُ مقاليد القرار السياسي ، بحجة مَلْء الفراغ الإداري و القيادي الذي كانت تعانيه كثير من دول العالم ، خصوصا بعد هزيمة دول المحور و إنحسار نفوذها في كثير من بقاع العالم بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية. 

إن المفهوم المثالي للإنتداب ، و الذي تمثل بإستنهاض الشعوب و تدريبها ، بل و تمكينها من إدراة بلدانها و السيطرة على مواردها في مختلف بقاع الأرض ، ظَلَّ مُراوحا في أروقة عُصْبَة الأُمَم و مواثيقها و لم يرَ النور يوما. بينما بقيت الشعوب المسحوقة تلهثُ وراء سَرَاب التَّحَضُّر و التًّحَرّر الذي لطالما تَشَدَّقَت به ، بل و أعاقت تحقيقه ، دُول الإحتلال و التّوَسُّع. فغاية الدول التي تَصَارَعت على إقتسام مختلف بقاع الأرض فوق هذا الكوكب كانت تتمثل في حِفْظِ مصالحها الإستعمارية و التوسّعية بُغية توفير مزيدٍ من الموارد التي من شأنها أن ترفع مستوى الرفاهية لشعوبها. إذ كانت فلسفة الإنتداب على أرض الواقع تتمثل ، إلى جانب تأمين الطرق التجارية بالطبع ، تتمثل في فتح المزيد من الأسواق في البلدان التي يتم إستعمارها من أجل صناعة سلعها و ترويجها ، بل و تحويل الشعوب المقهورة تحت نِيْرِ الإحتلال إلى أُجَرَاءَ و عُمّال تحت وطأة رأس المال بعد أن أصبح العامل في دول أوروبا قويّا و ذا حقوق مُصَانة و محميّة بموجب القانون و النقابات العمالية ، تلك التي كانت غائبة في الدول المُحْتَلَّةِ آنذاك. نعم ، لم تُقْدِم الدول التوسعية على تعميم المفاهيم الديمقراطية و تعزيز حقوق الإنسان ، كما لم تُصَدِّر أياً من إنجازات التجربة الصّحيّة أو التعليمية أو حتى التعددية ، لم تُصَدِّرها لتلك الأقطار التي كانت تتلمس طريقها نحو النّوْر.

غير أن فتح الأسواق أمام سِلَعِ المُسْتَعْمِرِ لم يكن بالأمر الهيّن ، و ذاك بسبب الفروق الثقافية و إختلاف الأنماط الإستهلاكية بين مجتمعات الدول المُنْتِجَة و مجتمعات تلك الدول التي أُرِيْدَ لها أن تكون مُستهلكة ، لذلك ظهرت الحاجة لضرورة تعميم نمطٍ ثقافي جديد في تلك البلدان المُسْتَهدفة يتماشى مع مصلحة رأس المال في خلق نمطٍ إستهالكي مُجْدٍ يتوائم مع طبيعة السّلع المُرَاد تسويقها. إن تعميم النمط الثقافي إبان تلك الحقبة كان من المهام الرئيسية التي إضطلعت بها أفواج المستوطنين ، إذ أن بعثات الإحتلال لم تتمثل في إرسال حشود من الجنود فقط ، بل و إشتملت على إرسال أفواج من المستوطنين بُغْيَة التغلغل في ثنايا المجتمعات المُسْتَهْدَفَةِ و خلخلة تراكيبها الثقافية من أجل تحقيق أقصى درجة ممكنة من عملية الإحلال الثقافي و بأسرع وقت ممكن ، إذ من غير المُمكن أن يُقْدِمَ المُستهلك على شراء سِلعة لا يعرفها و لا يدرك كيفية إستخدامها. و في ظل وجود هذه الفجوة المُزْمِنَة بين السلعة المتوفرة و بين النمط الثقافي و الإستهلاكي السائد في سوقٍ ما ، شكّل المستوطنون الوسيلة المُثْلَى – آنذاك- لجَسْرِ تلك الهُوَّة. و برغم فعالية تلك الإستراتيجية ، غير أن ما لها من آثار جانبية لم يظهر إلا على المدى الطويل بعد أن تَبَيَّن لتلك الدول التوسعية أن عملية التعميم الثقافي تلك و المُعتمِدَة في جوهرها على الاستيطان ، كانت عملية تفاعلية و تبادلية و لم تكن بإتجاه واحد كما أُرِيْدَ لها منذ البدء أن تكون. فسرعان ما تبين أن المُسْتَوطِنَ العائد إلى بلاده كان يحمل معه بعضاً من الأنماط الثقافية التي إكتسبها في تجاربه المختلفة ، تلك التي خاضها في إطار ديناميكيّ و تفاعُليّ قائم على أساس الإحتكاك بشعوب الدول المُحْتَلَّةِ. و من هنا فإن عملية تعميمٍ ثقافي مُضَاد كانت تجري بتمويل من رأس المال نفسه دون أن تتحمل الشعوب صاحبة تلك الثقافات وِزْرَ تعميمٍ كذاك. غير أن واقعا من هذا النوع يرفضه رأس المال بالمُطْلَق ، مما جعل من الحاجة لاستراتيجية إحلال جديدة ، جعل منها حاجة مُلِحَّة و مصيرية. و من هنا ظهرت أهمية الآلة الإعلامية بوصفها وسيلة تعميم ثقافي ذات إتجاه واحد يمكن التحكم بكل تفاصيلها ، و تأطير جميع آثارها. و من هنا شَكَّلَ إيلاجُ الآلة الإعلامية في مُجمل السياسة التوسعية تطورا مهما و تغيّرا محوريا في المفهوم و الأسلوب الكلاسيكي للإستعمار. غير أن الحديث عن الإستراتيجية الإعلامية و تطورها التاريخي لا تَحُدُّهُ بداية أو نهاية واضحة ، فالملامح الأساسية التي لازَمَتْ نُمُوَّ و إنحسَار مختلف الإمبراطوريات الإعلامية ، تلك الملامح كانت إلى حدّ ما ثابتة في مضمونها الرّامي إلى تعزيز الأثر المُحْدَثِ في الفئة المستهدفة. إذ يرى “ستيفان غلوفر” ، و هو مؤسس صحيفة (The Independent) البريطانية ، أن فلسفات الإعلام الإمبريالي التي يمكن تبنيها في أي مجهود يسعى لتعزيز سطوة الإعلام و توسيع قاعدة قبوله و تأثيره الجماهيري ، تلك الفلسفات تقوم في أساسها على تقديم المادة المقبولة لدى المُتلقي دون الأخذ بعين الإعتبار أن حاجة ذاك المتلقي في المزيد من الثقافة و المعلومات هي مهمة إعلامية بإمتياز ، و هذا على النقيض تماما من المفهموم الذي تبناه الإعلام الشيوعي الذي ركز دائما على تعميق الفهم و القيمة المعرفية لدى المتلقي ، مما يُفَسِّرُ إلى حدّ كبير الإنحسار الثقافي الشيوعي إذا ما قورن مع تَمَدُّدِ ثقافاة مجتمعات رأس المال و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. إذ كانت آلة الإعلام الإمبرالي دائما تستجيب إلى تساؤل رأس المال الأثير ، و هو: كيف يمكن تسويق سلعة في إطار ثقافي مختلف تماما عن ذاك الإطار الذي أنتج تلك السلعة نفسها عبر إحلال ثقافي آمن ؟ و عليه فكان لابد من توجيه جُرعَات إعلامية متواصلة و مكثفة لتحقيق أقصى قدْرٍ ممكن من الإحلالِ الثقافي المُتَوَخَّى ، إذ لم يكن من السهل تسويق ملابس رُعاة البقر (Cow Boys) أو حتى أنماطهم الغذائية دون تغيير البنية الثقافية في المجتمعات الإستهلاكية المُستهدفة ، مما سَمَحَ ، على سبيل المثال ، بتشكل سلاسل المطاعم الأمريكية العابرة للجغرافيا بعد أن أصبح مفهوم الوجبات السريعة رائجا و مقبولا خارج المجتمع الأمريكي. و هنا تظهر الأهمية الحقيقية لصناعة الأفلام الأمريكية كإحدى أذرع الإعلام التي حققت إنجازات مهمة في سبيل تعميم النمط الأمريكي و توسيع دائرة قبوله. بل و أكثر من ذلك فالأسلوب البراغماتي الذي إنتهجه الإعلام الأمريكي ، بوصفه أعلى مراحل الإعلام الإمبريالي حتى يومنا هذا ، لم يستثن فئة على الإطلاق ، و يبرز ذلك جَلِيَّاً إذا ما علمنا أن رأس المال الأمريكي لم ينظر إلى حلفائه الأوروبيين إلا كمجتمعات إستهلاكية و أسواق برجوازية لِسِلَعِهِ و منتجاته ذات الجودة العالية و الأسعار المرتفعة.

و بما أن الإحلال الثقافي يتطلب بشكل أساسي عُمْقَاً ثقافيا هَشَّا ، كان لابد من اللجوء إلى تقنية التعميم الثقافي و الإستهلاكي عبر تَسْطِيحِ عقل المتلقي. و من أبرز الإمبراطوريات الإعلامية التي تبنّت تلك التقنية كانت إمبراطورية “ميردوخ” الإعلامية. فقد إستخدم “روبرت ميردوخ” الفلسفة الشاكسبيرية ، تلك الفلسفة التي تمثلت في جوهرها في التوجه نحو الجمهور عبر تقديم مواد إعلامية تُلامس الواقع المُعاش ببساطة لا تتطلب من المتلقي كثيرا من التفكير و التركيز للدخول في حَبْكَة و تفاصيل العمل الإعلامي ، مما يجعل من الآلة الإعلامية التي تستجيب للذوق السائد الذي يرغبه الجمهور ، يجعل منها الآلة الأكثر سَطْوَةً و تأثيرا ، بل و يُكْسِبُها قدرة على التغيير في المَدَيَيْن المتوسط و البعيد ، و ذلك على العكس تماما من الآلة التي تفرض نمطا بعينه على المُتَلَقِّي. فإعلام “ميردوخ” كان دائما ينشر الأخبار التي يعلم أنها تستدرج الجمهور ، و لم يُحَبِّذ يوما نشر الأخبار التي تتطلب جهدا حتى تلفت إنتباه الجمهور. و عليه فإن الآلة الإعلامية الأكثر قدرة على الدّيمومة هي تلك التي تتعامل مع ما ينجح في السوق ، و ليس العكس. و هنا يمكن لنا إسترجاع ما جاء على لسان مدير قناة (Fox News) الأمريكية ، و التي هي إحدى مؤسسات إمبراطورية “ميردوخ” ، حين قال: “المزيد من الفتيات يعني المزيد من الأرباح”. إذ تُعدُّ تلك القناة على وجه التحديد أنموذجا حقيقيا يُجَسِّد النظرية الإعلامية القائمة على التحكم في إهتمامت المُتلقي عبر طَمْسِ عقله. و في وضع كذاك يصبُح المُتلقي ذا قابلية كبيرة لتقبُّل أي معلومة عبر تلك الوسيلة الإعلامية.           

و في هذا السياق فإن صناعة الدراما بِشِقّيها التلفزيوني و السينمائي ، تُعَدُّ من وسائل الإعلام التي تترك أثرا كبيرا في ذهنية المُتلقي ، بل و تُشَكِّلُ وسيلة إحلال و تعميم ثقافي فعالة جدا. فكانت الدراما المصرية مثلا ، كانت سببا رئيسا في تعميم الكثير من التعابير و العادات المنتشرة في المجتمع المصري ، و حملها و تقديمها للمجتمع العربي بشكل عام. كما يمكن ملاحظة أَثَرٍ مماثل للدراما السورية التي إستطاعت هي الأخرى دخول كلّ بيت عربي. و اليوم نرى تلك الدول التي عانت من الإستعمار بأساليبه القديمة ، ما زالت تعاني من الإستعمار بأساليبه الحديثة. ذاك أن الآلة الإعلامية مملوكةٌ في معظمها للمعسكر الإمبريالي الذي إبتكرها على سَجِيَّتِهِ التوسعية ، و وظّفها في سبيل خدمة طُمُوحَاتِه الشّمُولِيَّة. غير أن المفارقة المُلفتة بهذا الصدد هو دخول دولة كُبْرَى كروسيا ، ضمن دائرة التأثير الإعلامي الإمبريالي و الذي ظهر بشكل جلِيّ إبان الإنتخابات الرئاسية الأخيرة هناك. غير أن مشروع الإعلام الإمبريالي ليس قويا لدرجة لا يمكن مواجهته على الإطلاق. فالدول العربية مثلا بمشروعها التّكاملي و التي كانت من أكثر الدول التي عانت من ويلات و براثن الإستعمار ، ما زالت تنآى بنفسها عن مواجهة واقعها و التعامل مع التحديات الإعلامية بُغية الخروج بمشروع إعلامي مُضَاد يحُدُّ من وَطْأة المشروع الإعلامي الإمبريالي برغم إمتلاك تلك الدول للإمكانات المالية و الموارد البشرية اللازمة لإنجاح أي مشروع ثقافي مُضَاد. و برغم ما إتجهت له بعض الدول العربية من إستحداث قنوات إعلامية بشكل فعال و متطور ، غير أن تلك التجربة على رغم أهميتها ما زالت بحاجة للمزيد من الإحكام في سبيل تحقيق التأثير المطلوب في إتجاه دعم العمق العربي بكل مكوناته و خصوصا الثقافية منها. بل و يمكن لنا رؤية كيف ذهبت بعض الدول لِهَدْرِ أموالها في سبيل تعميم مفاهيم إجتماعية دخيلة عبر إستقطاب كَمٍّ هائل من الأعمال الدرامية ، كالتركية على سبيل المثال ، و عرضها بشكل مُكَثّف عبر الشاشات العربية و ليس العكس ، مما يطرح السؤال جَلِيَّاً حول آلية و إستراتيجيات تعميم الثقافة العربية و تَحْصِينِهَا.  

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى