إنقاذ ملحمة ستيغ لارسن بعد رحيله

الجسرة الثقافية الالكترونية
أنطوان جوكي
لماذا كل هذه الضجة الإعلامية في الغرب حول الجزء الرابع من رواية «ميلينيوم»، الذي تزامن صدوره أخيراً في السويد مع صدور ترجمته إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية والروسية؟
أولاً، لأن الأجزاء الثلاثة الأولى من هذه الرواية تُعتبر من أفضل ما كُتب في الأدب البوليسي. ثانياً، لأن الجزء الرابع، بخلاف الأجزاء السابقة، لا يحمل توقيع الكاتب السويدي ستيغ لارسن الذي توفي عام 2004، أي قبل ثمانية أشهر على صدور الجزء الأول من ثلاثيته التي عرفت نجاحاً قل نظيره في ميدانها، إذ تجاوز عدد مبيعاتها عبر العالم ٨٢ مليون نسخة.
ويطرح السبب الثاني سؤالاً بديهياً: هل يجوز لكاتب آخر (دايفيد لاغركرانتز) تبنّي شخصيات لارسن ومتابعة هذه الملحمة البوليسية؟ سؤال يقف خلف الجدل الدائر حالياً، علماً أن الفكرة غير جديدة أو صادمة في زمننا الذي تتعاون فيه مجموعة من الكتّاب على وضع سيناريوات المسلسلات البوليسية التلفزيونية. وفي النهاية، يعرف القارئ أنه يقرأ تتمة لرواية وضعها كاتب جديد، ومن هذا المنطلق، فهو وحده يملك الحق في الحكم على قيمتها… في شكلٍ موضوعي طبعاً.
على أي حال، يعكس الاهتمام الكبير الذي يثيره هذا الإصدار حجم الولع بشخصيات لارسن، وفي مقدمها الصحافي اللامع مايكل بلومكفيست والداهية المعذّبة ليزبيت سالاندر. وفي هذا السياق، لماذا لا نعتبر الجزء الرابع احتفاءً أو تحية لمبتكرها، خصوصاً أنه لا يقل قيمةً عن الأجزاء الثلاثة الأولى، بل يقارعها، وأحياناً يتجاوزها على مستويين: عنصر التشويق الذي يقطّره لاغركرانتز في نصه أفضل مما فعل لارسن، في نظرنا، والحبكة التي تبدو مشغولة ومشدودة أكثر الى ذاتها مقارنةً بحبكة لارسن في الجزءين الثاني والثالث، التي تعاني من مطّ وإسهاب في الوصف يرهقان القارئ من دون سبب مقنع. في الفصل الأول من روايته، يقدّم لاغركرانتز شخصية جديدة ومثيرة هي عالِم شاب يدعى فراك بالدر ويُعتبر مرجعاً دولياً في مجال الذكاء الاصطناعي. بعد سنوات عدة أمضاها في «سيليكون فاليه» في كاليفورنيا، نراه يعود إلى استوكهولم قلقاً ومتوتراً للاعتناء بابنه المصاب بمرض التوحّد (autisme) والذي يعاني الأمرّين على يد رفيق أمه الجديد والعنيف. وفوراً يثير لاغركرانتز الفضول تجاه هذا الطفل الذي يكتشف والده بسرعة أنه يملك مواهب وقدرات ذهنية تخرج عن المألوف، قبل أن يتابع الكاتب سرده المشيّد بإحكام والذي يثير بدوره مجموعة أسئلة: لماذا غادر بالدر الولايات المتحدة فجأةً؟ لماذا ينعزل فور وصوله إلى استوكهولم في منزله مع طفله؟ وما هي المعلومات التي يملكها حول النشاط غير المشروع لأحد أجهزة الاستخبارات الأميركية؟
مثل مواطنه لارسن، اختار لاغركرانتز في روايته مقاربة التناقضات والانحرافات في المجتمعات الراهنة من خلال موضوعات حساسة وخطيرة، كالتجسس الصناعي والمراقبة الشاملة التي تسمح بها وسائل الاتصال، والبحث العلمي الذي يثير شهية الشركات الدولية الكبرى والمافيات، اليوم أكثر من أي وقت مضى. وفي هذا السياق، تعكس روايته جهداً توثيقياً كبيراً، خصوصاً في ما يتعلق برهانات الذكاء الاصطناعي والتقنيات التي يستخدمها قراصنة الإنترنت، ولكن من دون أن يؤثّر ذلك سلباً عليها. بل بالعكس، يعقد لاغركرانتز بمهارة كبيرة خيوطاً سردية عدة داخلها، مطوّراً في ذلك ملامح شخصياتها على وقع أحداثها الكثيرة والمتوازية.
ولكن ما هو دور كل من ليزبيت سالاندر ومايكل بلومكفيست في «ميلينيوم ٤»؟ لا شك أنه الامتحان الأصعب الذي كان على لاغركرانتز عبوره، وقد نجح في ذلك باختياره الوفاء، هنا أيضاً، لمبتكر هاتين الشخصيتين اللتين لا تفقدان معه جاذبيتهما ولا تعقيدهما. تحضر سالاندر كما عهدناها، أي بالقدر نفسه من الشجاعة والحرية والعنف والرقة في الصراعات التي تقودها ضد أشباح الماضي، وبالقدر نفسه من المهارة في فكّ الشفرات الحاسوبية الأكثر تعقيداً، ما يسمح لها باختراق الشبكة الإلكترونية الخاصة بـ «وكالة الأمن القومي» (NSA) الأميركية والانتقام من مصمّمها.
أما الصحافي بلومكفيست، صاحب جريدة «ميلينيوم»، فيستعين لاغركرانتز به لتسليط الضوء على أزمة الصحافة التي تعود إلى تراجُع مبيعاتها والإعلانات فيها، ولكشف الضغوط التي يمارسها المساهمون في تمويل الصحف والمجلات على محرريها، من أجل دفعهم إلى تجنّب المواضيع «المحبِطة» والعثور على مواضيع «برّاقة» تجذب أكبر عدد ممكن من القرّاء. وفي هذا السياق، يحضر بلومكفيست في بداية الرواية متعباً ومتألماً من انتقادات الوسط الإعلامي له، وأيضاً من اضطراره إلى قبول مستثمرين جدد في رأس مال جريدته، لا يشاركونه قيَمه النبيلة، قبل أن يتصل به العالِم في الذكاء الاصطناعي، فرانك بالدر، في إحدى الليالي، ويشتمّ منه رائحة موضوعٍ خطير قادر على زيادة مبيعات صحيفته وإنقاذ سمعتها وسمعته معاً…
لن نقول أكثر من ذلك عن أحداث «ميلينيوم ٤» كي لا نفسد على القارئ متعة قراءتها، لكن ما يمكن أن نقوله هو أننا نعرف، فور انتهائنا من مطالعتها، أن لاغركرانتز أنقذ ملحمة لارسن البوليسية، على رغم كل التعليقات الجائرة على عمله في السويد وخارجها. ولكن يبقى أن نسأل: كم جزءاً سيتبع الجزء الرابع، ومَن سيكتبها؟
المصدر : الحياة