إنهم يستريحون على عشب إليوت

الجسرة الثقافية الالكترونية
*قيس مجيد المولى
ظننتُ بأن كل تلك المساحة المائية الشاسعة قد تبخرت أمام عينيَ، لا أراها لكني أتحسسها بأقدامي وبيديَ حين أنحني لأجد نفسيَ تردد بأعلى صوتها “هذا ماء.. هذا ماء”، وبنفس ذلك الاتجاه مع الهواء إذ أحاول تحسسه من خلال تنفسي فأسحب نفساً عميقا ولا أحسه هواءً ولكني أتحسسه عندما أحرك أطرافي بقوة أو أتسابق وجسدي عبر الممر الطويل الذي أقطعه يومياً وأنا أسير أو أركض وأردد “هذا هواء… هذا هواء”.
لذلك كان المارة يقرأون على عقلي السلام وهم لا يعلموا بأنه قد قُرئ عليه السلام منذ بدأ وجنيات الشعر وربة أثينا وهندسة إقليدس، وقد مسخني بعدها “كافكا” مسخاً مبرحاً جعلني بعد أن استيقظت صباح 24/9/1979 أن اخرج إلى الشارع عاريا وأصيح “أنا جرادة… أنا جرادة”.
ولفترة أخرى وطويلة تشيأتُ في نيكوس كازنتزاكي حجراً في المياسم التي اتخذها للطريق إلى غريكو بعد أن تخاصم على ساحل اللينيت، وكالعادة أيضا بقيت ردحا من الزمن أستلف زوربا لأُردد “أنا زوربا… أنا زوربا”، بل بعتُ مالدي وأستلفت كي أذهب لأثينا وأركب البحرَ لأرى ما تبقى من بيت كازنتزاكي والذي أصبح مزاراً بعد أن حولته السلطات اليونانية إلى متحفٍ لموجوداته وزرت “وترحمت لي ولكم”.
عدت الى ميناء بيرية وفي الميناء وكعادتي صحت أمام البحارة الذين صفقوا لي ورفعوا قبعاتهم صحت “أنا نيكوس… أنا نيكوس” ولم يصدق أحد من رواد مقهى البرلمان أنني كنتُ في أثينا ولكن خيري منصور بعد أن شم علبة المارلبورو التي في يدي ورأى علامة (nike) على بنطالي نهض واقفا والمارلبورو في يديه وهو يصيح “انا يوناني.. أنا يوناني” وحكيت لهم عن “أمونيا” وعن “دافنا” وعن الإكروبول وهرقل الجبار الذي رأيته يوما في السينما، وحكيت لهم بالنظر وبالممارسة عن البيوت التي تضع في الليل الضوء الأحمر في أبوابها وعن موسيقاها الشهيرة التي تعزف من عربات الباعة المتجولين.
وعن جبل “أتوس” ولا بد من الحديث عن الرهبان، وخلال ذلك الفيض إستلمني “كافاكي” وأنشأ لي مفاهيم للتقارب الإنساني وهي المرة الوحيدة التي خمدت أو بالأحرى تأجلت رغبتي في أن أخرج الى الشوارع وأكرر صيحاتي “أنا.. أنا”، لأني بدأت في هذه المرحلة إلى غلوّنة جزءاً من العاطفةِ وإقامة مناطق اتصال ما بينها على أساس التخيلي والمعرفي دون المساس بحجم المؤثرات النفسية وتأثيرها في مساحة الإشتغال، كي تنهض بفطرتها وبمكروهها الذي تصاب به دائماً لتعين هوسها وتقدم له المساعدة وتمدني بصلاتها الأولية لتبدأ من هذا المشهد صلتي بلوركا لأقول لأول فتاة مرت في حياتي بصوت خافت وخجول “أنا لوركا وأنتِ ماتيلدا”.
وسمعت بالمصادفة ياسين النصير يقول عن ذلك الهوس بأنه “السريالية” ويسهب بالشرح أمام أُناسٍ تهزُ رؤوسها فقط، وقد شاع بعد ذلك حين قرأت هذا النمط الفكاهي الذي جعل من السخرية محطة للإنتقال الى التمرد الواعي لحيازة قصب السبق في بعث الأشياء الجديدة وغير المتشابهة وعندما دكت صواريخ الغزاة الأميركان منزل ليلى العطار ذهبنا هناك ووقفنا على الأنقاض قال صعلوك من الجن: إقراءوا الفاتحة، وفتاة صاحت بنا أنا ليلى.. أنا ليلى ثم رددنا وراء عفريت آخر وهو يصيح أنا دالي.. أنا دالي، وأعاد الحضور الفاتحة على كل من مسك بريشةٍ وبألوان وبقلمِ رصاص على امتداد الكرة الأرضية ورفعنا الأنقاض ولا زال بعد الورد ورد الا من بعض الحروق التي كانت المميتة، خلال ذلك أتت مرحلة تحول الألوان فلم تكن الشمس بعينيَ بيضاء بل كنت أراها نتيجة اللحظة التي تلونني بها مشاعري.
أتذكر عادل عبدالجبار قال لي: يا قيس ما هذه السوداوية في شعرك وأنت في مقتبل العمر وقال لي: عبدالجبار داود البصري: يا ابني “إشلون بشِعرك” أريد أكتب عنه شيئاً بس منين أبدا “العفاريت والعقارب جلست فوق الغيم تشرب النومي حامض” هاي شنو، وهل صحيح يا قيس أنك تقول بأن اللغة العربية الحالية لا تستوعب الحداثة؟
كان البيان الشعري قد تهيأت مساحته بعد أن وفدَ الى بيروت أنسي الحاج وأدونيس وقبلهما وصل مظروف سوزان برنار الذي أمد قصيدة النثر بطاقتها التنظيرية القصوى، واجتمع الشمل في ندوة الأربعاء وتفتحت صفحات شعر حين حدا والحداة محمد الماغوط وجبرا وأبوشقرا وغيرهم من صناع الخطوة الأولى وبدأت المفاصل الهزيلة التي أثقلت شعرنا العربي بالتراخي.
وسريعا تفهمَ الجمهور من بغداد الى الصينِ، عكاز رامبو وشمعدانات شيلي ومخابئ روبرت فروست وحتى صور الجدل عند مالارميه، وظهر العشرات متوزعين على أصقاع المعمورة وتبادلوا التغذية واستراحوا على عشب أليوت:
البوليس هناك
يمسكون العصي
وراء الأسلاك الشائكة
لكن العربة فيها من المؤنةِ ما يكفي
والمكان ليس ملكا لأحد
لقد عبثت أخماتوفا بالورق الملون وحاكت زهرة عباد الشمس التي تدير وجهها ناحيته، ذلك المساء مر الكسندر بلوك وراء الرجل الذي سرقهُ وقرأ له وقبله:
إحتفظ بمحفظتي
أيها السارق
لا تعيدها إلي
فيها أسماء كثيرة
إستلفت منهم
قوت السنة الماضية
كان لا بد لذلك الأُفق أن يُرى والزجاج أن يتهشم بدون مقايضة مَخدع، والقادمون خرجوا من قمقم الرتابة وله الحق أي منهم أن يصرخ ويصيح “أنا فورفوربوس.. أنا فورفوربوس” وسيقول له المارة لا كما قالوا لي فقد عقله، سيقولون: نضجَ عقله وحتما سينحنون له.
المصدر: ميدل ايست اون لاين