«إني وضعتها أنثى» للمغربية سعيدة تاقي

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

مصطفى الورياغلي

منذ العنوان «إني وضعتها أنثى» نصطدم بإشكال العلاقة بين الصوت السردي (من يتحدث؟) والخطاب؛ فالصوت السردي يرتبط بالسارد والشخصية، بينما الخطاب يرتبط بالسلطة وبالجماعة التي تملك سلطة إنتاج الخطاب والقدرة على بثِّه وفرضه في المجتمع؛ فليس كل صوت يصنع خطاباً، لكن كل صوت لابد أن يندرج ضمن خطاب يستمد منه رؤيته وقيمه وسلطته. وهكذا نجد أن العنوان «إني وضعتها أنثى» يستحضر في ذهن المتلقي، بوضعه الأولي على غلاف الرواية، أفقاً مصاحباً متمثلا في الخطاب الديني: «فلما وضعتْها قالت ربِّ إني وضعتُها أنثى والله أعلم بما وضَعَتْ وليس الذّكر كالأنثى وإني سمّيتها مريمَ وإني أُعيذها بكَ وذُرِّيَّتَها من الشيطان الرجيم» (آل عمران، الآية 36). فالعنوان يطرح، انطلاقا من أفقه الدينيِّ الملازمِ، إشكالَ الهوية؛ الهويةِ الجنسية «وليس الذكرُ كالأنثى»؛ فمَا الذكر وما الأنثى في سياق الرواية الثقافي؟ وكيف يتحقق تمثيل الهوية الجنسية في هذا العمل الروائي؟

حققت الناقدة والفيلسوفة الأمريكية جوديث باتلر في كتابها «اللغة والسلطة والهوية» انقلابا في الدراسات الثقافية والنسوية، عندما ربطت الهوية الجنسية بفكرة الإنجازية، حيث تذهب إلى أن الهوية الجنسية ليست شيئا طبيعيا أو معطى، ولكنها نتيجة ممارسات خطابية حول الجنس؛ فـ»الجنس في حد ذاته تخييل ثقافي». ومن ثم نجد أصوات الرواية تندرج ضمن خطابين متباينين، بل متواجهين؛ خطابٍ رسمي محافظ وخطاب مؤسِّس. وعلى الرغم من أن المؤلف لا يمنح حق السرد والكلام إلا لأصوات الخطاب المؤسِّس، حيث تتناوب على السرد أصوات الكاتب عمران، والسارد عزيز، والبطلة مهدية، وكلها أصوات تؤمن بحق المرأة في أن تبني هويتها كما تشاء، وأن تكتشف ذاتها وعلاقتها بجسدها ومحيطِها بحرية، من دون وصاية من الآخر، فإن الخطاب المحافظ يهيمن على مسارات الحدث والحبكة فلا يترك للخطاب النقيضِ من مجال سوى مساحات الحلم والرسم والكتابة والمنفى؛ يشتغل عمران بالكتابة، وعزيز بفن الرسم، أما مهدية فليس لها إلا الحلم، أو ما يسميه فرويد بالرواية الأسرية: «كان الليل ملاذ الأحلام الآمن، لا يسترق النظَر إليه مخلوق، ولا يتلصص على أحاديثه إنسان… كانت ترى نفسها مثلا ابنة لماريا. إنها تلك البنت التي تمنّتها ماريا كثيراً». أما الخطاب المحافظ فيستمد قوته من السلطة ومؤسساتها الأيديولوجية. 

ولا يقتصر مفهوم السلطة هنا على السلطة المركزية السياسية الحاكمة، بل يشمل شبكة من العلاقات السلطوية المنتشرة في كل مستويات الوجود الاجتماعي؛ بما في ذلك الدوائرُ الأسرية الحميمة والعلاقاتُ الجنسية، كما في الدوائر العمومية السياسية والاقتصادية والقانونية.

تدرك البطلة مهدية منذ طفولتها أنها تختلف عن أمها، أو على الأصح تريد أن تختلف عن أمها، ألاّ تحيا حياتها، لكنها تدرك أيضا أن الأمر يتجاوز إرادتها أو إرادة أمها: «أمي لم تكن تشك.. وكانت تنكر مني الشكوك التي أظهرتها في بدايات طفولتي بشكل عفوي. أحجمتُ بعد صدامات متوالية عن إقحامها في شكوكي. ليس لأنها لا تفكر مثلي، أو لأنها لا تحتمل طاقة الشك مثلما أحتملها أنا، وإنما لأن إيمانها بذاتها وحياتها ودورها ووجودها كان مسلمة لا تقبل أي تشكيك في عرفها. ولم يكن عرفها ذاك مِلكَها، بل كان عرفَ المجتمع الذي أنجبها وربّاها وشكّل أنوثتها على مقاس ذكورته». كان الوالدان، والإخوة الذكور، ثم الزوج الذي اختاروه لمهدية على مقاس أفكارهم يشكلون حرّاس هيكل التقاليد والأعراف، يستغلون ما يمنحهم المجتمع من وسائل السلطة والتحكم ليقهروا صوت مهدية ولا يتركوا له أي فجوة للتعبير أو التمرد، وهم من يحدد معنى أن تكون مهدية فتاة أو امرأة. 

لا تمنح الرواية لأصوات الخطاب المهيمن سلطة السرد، لكن تلك الأصوات تقف في خلفية كل أحداث الرواية، وترسم حدودها، ولا تسمح لأصوات الخطاب المؤسِّس بالتحقق إلا في مستوى الحلم، والفن كتابةً ورسماً، أو في فضاء المنفى خارج حدود الوطن؛ فعندما تقترب شخصيتا مهدية وعزيز من التمرد على قيم القبيلة الذكورية بالانصياع الحر لخفق قلبيهما، تتدخل سلطة القمع المركزية، ولو بشكل رمزي غير مباشر إبان أحداث تطوان المأساوية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لتلقي بعزيز في أتون المنفى، وتفلت مهدية من الموت المحقق، ويكون عليها أن تستسلم لسلطة إخوتها بعد مقتل والدها في تلك الأحداث. ومن ثم يظهر أن سلطة القمع السياسية وسلطة الإخوة الاجتماعية يشكلان وجهين لسلطة واحدة مهيمنة على الرغم من الصراع الذي قد يبدو بينهما في الظاهر.

يفشل الخطاب المؤسِّس إذن، وفق منطق الرواية، في التمكين لأصواته داخل المجتمع المغربي الذي يهيمن عليه خطاب السلطة بمختلف تجلياتها السياسية والأسرية والفكرية، فيضطر عزيز إلى الهرب من قمع الرصاص والسجون، واللجوءِ إلى المنفى في إسبانيا حيث سيستطيع أن يحقق هويته ويطورَ مواهبه في الرسم والهندسة، وبعد سنين طويلة ستلحق به مهدية وقد عانت أشكالا من القهر والقمع والتحكم الجسدي والنفسي، حيث تستطيع أخيرا أن تستردَّ صوتها المسلوب: «وأخيرا وأنا أشرف على عتبة الأربعين، تفصلني عنها سنتان اثنتان، أمتلك صوتي وجسدي… جسدي الذي كان يحملني كل هذه السنوات أراه لأول مرة بشكل مختلف، لأنني مختلفة، أو لأنني أدرك أنني أختلف عمّن كنت أظنني». 

وتكون النتيجة أن تودّد، الطفلة التي توّجت علاقة الحب بين عزيز ومهدية، وترمز للأمل والمستقبل، لا يمكنها أن تُتَصوَّر وتعيش، وفق منطق الرواية، إلا خارج الوطن، في فضاء يهيمن فيه خطاب مختلف: أدركتُ تقول البطلة «إنني لا أرغب في العودة نحو ذلك المجتمع الذي تركته خلفي.. ولا أرغب لصغيرتي أن تنشأ في رحابه، أو أن تنشأ في ظل قوالب ذلك الفكر الذي يكتسح مناحي الحياة هناك في مدن وفي أماكن عديدة». 

وقد أثَّر تصوُّرُ الرواية لهيمنة الخطاب الرسمي التقليدي في مستوى السياق الثقافي على صيغة التشكيل الجمالي، حيث ظل التوتر محصوراً في المراوحة بين رغبات الشخصيات في التحرر في مستوى الحلم والفن والكتابة وبين استسلامها في الواقع أمام سطوة الخطاب الرسمي، ولم يفلح التعدد الصوتي الذي، تلفعت به الرواية في مستوى السرد، أن يغذِّيَ ذلك التوتر الروائي، لأن تعدد الأصوات السردية لم يعكس تعدداً في الخطاب، كما بيّنا أعلاه، بل ظل تنويعاً سردياً داخل الخطاب الواحد، ومن ثم اكتسبت الرواية في تصورنا سمة رومانسية طغت على رؤيتها إلى العالم وإلى ما يشهده المجتمع والواقع الثقافي من تدافع بين الخطابات

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى