ابن سينا الذي لا نعرفه!

الجسرة الثقافية الالكترونية

*نذير الماجد 

بن سينا.. فيلسوف وطبيب ولغوي. تفخر به الثقافة العربية والإسلامية، ويمثل شعلة وقبس تتنافس عليها الجماعات والمذاهب الإسلامية.

 

إنه طبيب، وهو معروف بصفته اسما لامعا في الطب لكنه أيضا فيلسوف لا يعبأ بالنص وظاهريات النص، وإنما بالمقولة والعقل والبرهان المنطقي.

 

نسينا ابن سينا الفيلسوف، وجعلنا منه مجرد طبيب. الذاكرة والثقافة انتقائية، تتذكر فقط ما لا يشكل تهديدا.

 

ابن سينا الطبيب يحتل مكانا رحبا في الذاكرة الجماعية، أما ابن سينا الفيلسوف فإنه منفي، مثلما هي آراؤه وفكره وفلسفته. يبقى ابن سينا كعلامة ورمز وعنوان يزين مؤسساتنا التجارية وتراثنا العلمي، نفخر به كثيرا بهذه الصفة: طبيب وحسب. طبيب بارع في القولون ربما أو في أي شيء آخر، وقد يكون أيضا لغويا وأديبا بوسعه أن يكتب نصا يبزّ محاورات أفلاطون ورسائل الفارابي.

 

ابن سينا الأديب الذي كتب قصة “حي بن يقظان” وقصة الطير.. هذا هو ابن سينا. أما ما عدا ذلك من فلسفة وآراء كلامية فهرطقة مدانة لا محل لها في الذاكرة والوجدان والعقل.

 

يبقى الاسم ويغيب الخطاب. حضور ابن سينا كموضوع احتفاء وتبجيل يحجب المشاغبات الفلسفية التي خطتها أنامل الرجل نفسه. ابن سينا الأديب والطبيب لا يشكل خطرا، أما ابن سينا الفيلسوف فمصدر إزعاج ينبغي محوه وشطبه.. أن يسقط من الذاكرة.

 

عندما كنت أتصفح كتابه “التعليقات” (حتى وإن كان الكتاب منتحلا كما يقول كوربان وغيره إلا أنه يجسد آراء الفيلسوف بأمانة كما يؤكد عبدالرحمن بدوي) وجدت آراء الرجل مزعجة جدا للسلفية الرائجة في أوساطنا، وأظن أن أحدا لن يتجرأ على الجهر بها اليوم، وحتما ستعلق المشانق لكل من يتجاسر على البوح بها.

 

تخيلوا هذه الأفكار التي نستشفها من النص السينوي: المبدأ الاول لا يعلم الجزئيات وإنما الكليات وحسب. العالم قديم وأزلي والنفس الكلية هي الخالدة، أما فكرة الخلق وفق التصور الديني السائد فهي فكرة متناقضة ومتهافتة منطقيا. كما أن المحرك الأول لا اسم له ولا ماهية. إنه – كما فهمته شخصيا – كينونة، وجود، “إنية” كما يعبر هو نفسه.

 

هل هذه الأفكار يمكنها أن تسود اليوم؟ هل يمكنها أن تشكل خطابا يعبر عن ذاته دون خوف؟ هل الثقافة التي أنتجت ابن سينا في يوم من الأيام عاجزة عن إنجابه اليوم أو غدا؟

 

هذه الأسئلة برسم رعاة القحط الثقافي والمقولة السائدة: من تمنطق فقد تزندق.

 

راح العهد الذي نتبجح به على العالم بتقدمنا الفلسفي والمعرفي. كانت لدينا فلسفة تملأ الدنيا ضجيجا وجدلا، كان لدينا الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الطفيل والسهروردي وابن عربي. كانت لدينا فلسفات من كل نوع، فلسفة كلامية ومشائية واشراقية بل حتى طبيعية، أما اليوم فقحط ثقافي وفلسفي، اليوم ترتد الفلسفة إلى حيث تكون مجرد ذكرى، صورة باهتة لنقاشات فلسفية حامية بين “رشدية” تعتز بعقلانيتها و”أفلاطونية محدثة” تتجسد في مذاهب الفيض التي كنا نعرفها.

 

الفلسفة عابرة للطوائف والمذاهب والكراهيات الدينية والعرقية، إنها ذات طابع إنساني محض.

 

ابن سينا يمنح فكرة الخلق الدينية كامل أبعادها الفلسفية. فكرة الخلق لا يمكن أن تستقر دون معالجة فلسفية، دون توطئة مستمدة من أفلاك أرسطو ومثل أفلاطون، ابن سينا يمنح الفكرة المهددة بالزوال إمكانية الخلود، الفكر الديني مدين لابن سينا وفلسفته أكثر من طبه ومعارفه الطبيعية، حتى الغزالي المحارب الشرس للفلسفة لم يسلم منها.

 

الغزالي وقع في فخ الفلسفة من حيث يحسب أنه يفندها، كان يريد تقويض الفلسفة ولكن على أرضية الفلسفة نفسها. الغزالي يحب السياحة بين الحقول المعرفية، المعرفة لديه نزهة، الكلام والفلسفة والتصوف اتجاهات معرفية لم تكن غريبة لديه، في كل مذهب أو منهج أو فكر يشعرنا الغزالي أنه في بيته، وأن أكبر فيلسوف هو مجرد زائر في ضيافته، لكنه رحالة تعب من السفر، فأمّن لنفسه توبة ظافرة بكتابه “تهافت الفلاسفة” الكتاب الذي يهاجم الفلسفة بالفلسفة نفسها!

 

أما أبوبكر الرازي الطبيب والفيلسوف والذي تعرضت فلسفته لشطب كامل فإن لديه قصة تستحق أن تفرد لأجلها مادة مستقلة.

 

الرازي الفيلسوف – مثله مثل الراوندي – تعرض للظلم أكثر من ابن سينا الفيلسوف، لم يبق منه إلا اقتباسات ومقتطفات توضع على هامش التفنيد والنقد، وكما هو حال ابن سينا سقط الرازي الفيلسوف من الذاكرة وبقي مجرد اسم طبيب لامع تزدان به شوارعنا ومؤسساتنا التجارية.

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى