‘احتفاء بصباحات شاغرة’.. جدلية الاحتفاء والرفض

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

د. محمد ونان جاسم

 

تبنى إستراتيجية الإبداع على المغايرة المقنعة والمدهشة في الآن نفسه, تلك المغايرة التي تلتزم حيثيات الوعي والإدراك من دون اتكائية كاملة على نصوص سابقة، فضلاً عن الاستناد إلى الرؤية التي تنص على أن الفن للفن لا للحياة، لأن الشعرية في هذه الرؤية هي المبتغى لا المعنى المحكوم بالتغيير والثبات والتداولية غير الخارج عن صفرية التمايز ومعلوم أن جدلية الثبات والمغايرة جدلية ملتبسة بحكم تنازع بين التراث والحداثة اللذين اشتغلا على الشكل واللفظ – على الأغلب – دون المعنى, وللمعنى مستويات عديدة منها:

 

ا – المستوى التداولي الصفري المشهور الذي يعرفه الداني والقاصي – بحسب الجاحظ – وهو مبتغى شعراء رؤية الفن للحياة الذين أثقلوا المنجز الشعري بنصوص اتسمت بالترهل والفظاظة.

 

ب- المستوى الاتساعي.

 

ج – المستوى التحديدي.

 

حين يميل النص إلى الإبداع يجول في المستويين الثاني والثالث مع مراعاة مبدأ المغايرة.

 

سقت هذه المقدمة كي تكون مدخلا لقراءة المجموعة الشعرية “احتفاء بصباحات شاغرة” للشاعر العراقي طلال الغوّار الصادرة من دار بعل في دمشق عام 2014, فقد كانت قصائد المجموعة تجول في المستويات الثلاثة.

 

ستبنى القراءة نفسها على بيان الصيرورة الإبداعية للمجموعة الكاشفة دون تصريح عن جماليات النص الشعري.

 

ضمن المجموعة 122 نصا شعريا مختلفا في الشكل الشعري وفي الموضوع, حيث يتجاذب في المجموعة ركنان رئيسان هما: الذاكرة والخيال وهناك فرق بينهما, فالذاكرة تحمل في طياتها ماضيا لا يشترط أن يحمله الخيال, والذاكرة تنتمي السير ذاتية والخيال يجول بين الذاتية والغيرية حيث تعمل المخيلة على العام والخاص في الوقت نفسه.

 

ظهرت مهيمنات في ركن الذاكرة منها الفضاء بما يحوي من مكان وزمان, فالجسد (الشاعر) مرتبط ارتباطا وثيقا بالمكان المخزون في ذاكرته, متشبث حد الاندماج بقريته وما تمثله من فضائل شعورية, وسمة معنوية لهويته الشخصية, ويبدو هذا التعلق بارزا من العنوان “احتفاء” – إنه احتفاء معنوي بالمكان المقرون بالزمان “صباحات” والديمومة لما يمثله الصباح من انجلاء للظلام وبدء حياة جديدة وحركة مقترنة بالنشور.

 

بقول:

 

هل لي

 

أن استبدل ذاكرتي

 

بحديقةٍ

 

وأحفادٍ

 

يطاردون فراشات أحلامهم

 

وهم يحصون الزمن

 

بالضحكات

 

يشي الخطاب الإنشائي في هذا النص بالرغبة في العودة إلى الفضاء الأرحب للمكان الايجابي (الحديقة) الضام للأحلام والأطفال والفراشات على الرغم من التجاوز اللغوي في علاقة المبدل بالمبدل به، وحققت هذه الرغبة وظيفة نفسية إذ كان القول هو المتنفس لحالة الضيق التي تدور بالباث دوران المهيمن، فكان القول منجياً له.

 

وكانت آلة الذاكرة عند الشاعر طلال الغوّار (المرايا) إذ استند إليها كي يطابق بين مكان الذاكرة ومكان الواقع, ولكنها مطابقة أسى وشجن ولم تكن هذه الذاكرة منتمية إلى الزيف أو الوهم.

 

يقول:

 

في مرايا صباحكِ

 

ما عدت أراكِ

 

لكنّي رأيت وجوها

 

تعبرني

 

كأنها قبورٌ تمشي

 

إنه أسى التحوّل في ذاك المكان الايجابي ذي الفراشات والأحلام صار ذا القبور الماشية, ويحمل المقطع أسلوبية تعبيرية متأتية من التناقض بين مكان الذاكرة ومكان التغيير الزمني, وكان لأداة النفي (ما) أثرٌ واضح ٌ في بيان هذا التمايز وعلوم أن وظيفة هذا الأداة هي نفي الحال لكن الشاعر استطاع أن يوظفها توظيفا مقاربا من خلال القلب الصوري, وأضفت (ما) النافية بعدا صوتيا مع ألفها المتلائم مع عمق الأسى الدائر في نظام الاسترجاع لصورة المكان الايجابي، وأعطى لفظ القبور بعداً سيميائياً للبون الشاسع بين الزمنين أو حيزي التكوين الاجتماعي وما طرأ عليه من تغييرات.

 

وكانت الطفولة ذات مغزى زماني في ذاكرة الشاعر النصية, فضلا عن المغزى النفسي في زاوية “المسكوت عنه” المتمثل برغبة الشاعر في أن يبقى طفلا, ويتضح لنا من خلال المجموعة الشعرية أن الطفولة صيغة حميمية من صيغ الزمن عند الشاعر, لذالك فهو مشدود إليها، ونجد أن اغلب مقاطع الطفولة شابهت الشاعر وورد زورث المعبرة عن الطاقة التجديدية أو العودة إلى الفردوس, وكانت الرؤية الشعرية الراغبة بالعودة إلى الفردوس مستندة إلى الزهور والورود بوصفها رمزا للإيجاب المفقود.

 

وحضرت الابيجراما الشعرية بوصفها إبداعا شعريا في المجموعة “احتفاء….” ومن ذلك قول الشاعر:

 

أكتافهم محدّبةٌ

 

لكثرة ما امتهنوا

 

الانحناء

 

أيقونة الانحناء خلقت الدهشة المطرزة بالعلية الاستهجانية في هذه الابيجراما التي انتمت إلى المستوى الاتّساعي, إذْ اتسعت دلالة الانحناء من الوظيفة الجسدية إلى الوظيفة المعنوية لتمنح النص سمة الشعرية استندت إلى المشهدية الخالقة للدراما الموحية أو الدراما الحاملة لثيمة الرفض.

 

لقد خالفت هذه الأبيجراما الاحتفاء لفظياً لكنها عضّدته ضمنيا بوساطة التلازم بين الاحتفاء والرفض المحكوم بالعلاقة الدلالية التي أسسها السياق.

المصدر: ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى