«اصدقائي الكلاب» لفالح مهدي: الشرق عراقي ومدونات محنة المثقف!

الجسرة الثقافية الالكترونية

#علي حسن الفواز

هل يمكن ان يكون البطل المثقف ساردا لسيرته؟ وهل يمكنه التموضع داخل متخيله السردي باحثا عن سرائر عوالمه، وعن حلول لهواجس متخيله السردي؟ وهل يمكن لهذا المثقف الراوي ان يكتب مدونات تاريخه بوصفها سردا؟
هذه الاسئلة تستنفر فاعلية القراءة، وفاعلية توصيف المثقف، اذ تثير حولهما اسئلة ثانوية اكثر توغلا في الواقع، واكثر تعالقا بطبيعة الوظيفة السردية، وبتوصلات مجراها الوظيفي التي اجتهد الروائي في اعتماد مستوياته البنائية والتقانية عبر اصطناع سياق لمقارباته للزمن والمكان والشخصية، وضمن سياق كشوفات رؤيته السردية، تلك الرؤية السيرذاتية، والتي ترتبط اساسا بتدوين حكاية مثقف لـ (شرقه العراقي) هذا المثقف المستلب والمهمش والشقي بوعيه واسئلته لايملك سوى ان يصطنع له نوعا من الاوديسة السردية، تلك التي تدفعه للبحث، ولاستكناه رؤيا الوجود، او الانزياح الى ما يشبه التبئير لاسناد وظيفته السردية، ولاستنطاق الافكار والهواجس من خلال تكثيف التواتر السردي..
رواية المثقف الشرق عراقي، هي العتبة المقترحة لقراءة رواية (اصدقائي الكلاب) للروائي فالح مهدي* الصادرة عن دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع في القاهرة، اذ نتلمس صورة اخرى لبطل قريب من ابطال عبد الرحمن منيف الشرق اوسطي (المسمى)، المتورط بمحنة الايديولوجيا، ومحنة السلطة الشمولية والاستبداد والسجون، ومحنة انهيار البطل الاخلاقي القومي واليساري المحشو بالكثير من رهاب الاغتراب الوجودي، لكن بطل فالح مهدي (غير المسمى) يصطنع له اغترابا داخليا اكثر وضوحا، له مرجعياته السياسية والنفسية على مستوى المكان، وعلى مستوى الزمن، بدءا من اشارات الروائي الى انقلاب 1968 وصولا الى اشاراته لرعب السلطة في بغداد، وما اصطنعته من خراب وطني وسلوكي، فضلا عن الحروب والتصفيات والاغترابات الاخرى..
بطل فالح مهدي يضع سيرته الذاتية، عبر توصيف شخصيته بالمعنى النمطي للمثقف (انتهيت من اعادة قراءة ازهار الشر، الساعة الثانية صباحا، الكونشرتو الثانية لرحمانينوف في رحيقها الاخير، بضع دقائق وساستمع الى ايلا فيتزجيرلاد ولويس ارمسترونج في بروركي وبيس) ص5
مقابل توصيف سيرة اشكالية للزمكان العراقي، سيرة الوجع والفجيعة، تلك التي يبدو تشيؤها وكأنه سيرة مضادة ليوميات الشخصية العراقية المسحوبة الى سلسلة من الوقائع الاضطهادية، والتي تبدو فيها حركة السرد مقابلا تسجيليا للكثير تلك الوقائع ذات المرجعيات التاريخية والاجتماعية والسياسية، لكنها الاكثر نفاذا عبر الاثر في تشكيل الشخصية السردية، بوصفها الشخصية المركزية الساردة، والرائية، وبوصفها الشخصية التي تنطوي على هاجس مواجهة النقائض، حيث الرفض والاستسلام، وحيث الاحساس بالفشل مقابل البحث عن المعنى او الحرية او الخلاص، وحيث الاحساس بالهامشية مقابل البحث عن التمركز، وحيث المكان المعادي مقابل المكان الاليف..
تقانة بناء الشخصية من اكثر انشغالات الروائي حضورا، اذ بدت هذه الشخصية اكثر امتلاء في مجال (تضبيط) علاقتها بالزمن الروائي، وحتى علاقتها بالامكنة المتعددة- بغداد، سليمانية، باريس، البصرة، مدن الهند المتعددة- فضلا عن كونها العلاقة الفاعلة في تشكيل عناصر السرد في الرواية ذات البناء الدائري، والتي تبدو وكأنها رواية او سيرة شخصيات تبحث عن المعنى او الوجود، او حتى الاشباع الرمزي والانساني والايروسي التي تمثلها شفرة الخبز بدءا من (عندما طرقت سمعي عبارة خبزنا كفافنا) ص5، وانتهاء بـ (لم يبق امامي الاّ البحث عن الخبز) ص154 وصناعة الشخصية المركزية تعني صناعة المجال الحكائي والتعالقي الذي تنخرط به الشخصيات الاخرى، اذ تسهم هذه الشخصيات في توسيع فضاء التخيّل، مقابل مايعمد اليه الروائي من قصدية للايهام بتغييب الشخصية القرينة للبطل، وهي شخصية المروي له (لقد فاتني ان انبهك اننا في عام 1991 ومن واجبي بعد مرور كل ذلك الوقت ان اقول لك انني لم انتم الى اي تنظيم سياسي في حياتي ولن انتمي) ص16، اذ تبدو هذه الشخصية غير واضحة الملامح، منفصلة عن النسيج الروائي، لكنها تشير ايضا الى قصدية (الحكاية) التي يرويها البطل لهذه الشخصية المجهولة وغير المسماة ايضا..
علاقة الشخصية الرئيسية/ البطلة بالشخصيات الاخرى- العقيد، كولاله، المحقق، الام، وليد، دومنيك، ايف نادو، الياس، سامية، الشيخين، الاب جوزيف، ميرندا وغيرهم، لاتعدو ان تكون علاقات البحث القسري عن اشباع سردي، ورغم واقعيتها المفرطة في المبنى السرد ذاتي، الا انها تتحول الى موجهات سردية تنعكس فعاليتها من خلال توتير الاحداث وترابطها، ومن خلال توضيح (التبئير) السردي الذي يجعل من هذه الشخصيات عناصر ساندة للبطل بوصفه المركزي، من حيث التمثيل السردي للاحداث والذكريات الاستعادية، ومن حيث ابراز عناصر المجاورة والمقاربة في السياق السردي، لكنها تظل بالمقابل علاقات غير مشبعة، لانها تقوم على فعل النفي مع الام، وعلى فعل الفقد مع الاخت المنتحرة والاخ الغريق، وعلى فعل الملاحقة مع الاخ الياس، وعلى فعل البحث عن الاشباع المشوه مع كولالة ودومنيك وميرندا، وعلى فعل الاستلاب مع المحقق والعقيد والعرفاء والضباط ورجال الامن..
اتسم اعتماد هذا المركب البنائي للشخصيات بالتطويع، وبدقة التصوير، وبمهارة الروائي في خلق توافقات تعزز وظائف هذه الشخصيات في النسيج الروائي دون ترهل، ودون تعويم، وبما جعلها عناصرمهمة في تغذية اللعبة السردية، وفي تبرير واقعية السرد بوصفه سيرة ذاتية، او شهادة على تاريخ مهم من السيرة العراقية منذ الستينات الى التسعينات..
كما تشكل ثيمة البحث عن الغائب واحدة من اهم تقانات السرد الروائي، اذ ان بحثه عن شقيقه الغائب (الياس) هو بحث مركّب، حيث يمثل الياس هاجس وجودي للمعنى المغيب عبر شخصيته العميقة والثرية بوصفها شخصية سردية مولدة لكنها عاجزة، وعبر ما تمثله شخصية الياس علامة للهاجس الانساني للتطهير بدلالته الاسطورية- خضر الياس- الحاضر في سرديات الذاكرة العراقية، واحسب ان رحلات البطل في الامكنة الاليفة- دلهي/ بونا/ بومباي/ باريس. وفي الامكنة المعادية، السجن/ سرية البغال/ معتقل الاسر/ المستشفى/ جبهة الحرب/ مكان غسل الموتى وتكفينهم تمثل استمرارا وتواصلا لرحلته الاوديسة المرعبة والغرائبية في عملية البحث عن معنى الوجود، وللكشف ايضا عن سيرة شرقه العراقي المصاب بلعنة الانقلابات الدامية والحروب والاستبداد..
العنونة والمفارقة
تستجيب عنونة الرواية (اصدقائي الكلاب) لرؤية بطله المثقف، ولحساسيته ازاء سلسلة من الصراعات التي تشكل ثيمة الحدث الروائي، مثلما تشكل المجال التصوري الذي يعبّر من خلاله البطل/ الراوي عن افكاره ومواقفه، فمفهوم (الاصدقاء) و(الكلاب) في سياق المتخيل السردي يكشف عن مستويات رمزية، تجعل من العنوان يكتسب بعدا مفارقا، ومضادا احيانا، فالاصدقاء هم الخصوم ايضا، والكلاب هم القوة الرمزية التي تكتسب بعدها السياسي والتاريخي والنفسي من خلال وظائفها العدوانية، والتي تشكل مصدر رعب البطل، واحساسه بالاغتراب والخوف، بحيث ان الكلب الواقعي (سنوبي) الذي حاول ان يقتله، يشبه الكلاب الرمزية التي تلبس اقنعة المحقق والعقيد التي تقتله رمزيا..
الحمولة السيميائية للعنوان في تركيبها الاسمي تدل باشارتها الى الكثير من المعاني المضمرة، فهي تنطوي على اشارات ومداليل تضع رمزيتها في سياق الكشف عن مفارقة العلاقة، وان تمثلات هذه العلاقة تتشكل عبر تفجير ماتحمله الكلمتان: اصدقائي، الكلاب، اذ انهما يحملان معنى مكملا، رغم الضدية في تركيب سياق الجملة الاسمية، وانهما بمركبهما الاسمي يحيلان الى نوع من التمثيل السردي الفاجع، وبما يوجّه التوصلات السردية باتجاه تشكيل شبكة من الدلالات المفارقة التي تحكم توتر الاحداث، مثلما تقود الى تعميق المعنى الفاضح الذي تتيحه القراءة بوصفها عملية تقص للافعال السردية، ولحساسية الشخصية الرئيسية في ان تجعل من عتبة العنوان منطقة لتفجير استثارتها الدائمة، ولدفعها نحو التوغل عميقا لاستكناه ما تفضي به سيرة البطل الاوديسي من كشوفات ومن فضائح وهو يدون سيرة رحلته الدائرية في الامكنة كشفا وتعرية وفضحا..
التقانات المجاورة
تبدأ الرواية باعتماد تقانة الميتاسرد بوصفها تقنية مجاورة للتعاقب السردي، وتعمد هذه التقانة الى تغريب الشخصية الساردة، عبر اصطناع مجال ايهامي يقوم على وجود فكرة رسالة بين الراوي وبين المروي له، او ربما هي اعتراف بسيرة او رحلة في المكان والزمن العراقيين، بحيث تندرج الاحداث ضمن نصية هذا الاعتراف، رغم تشيئها ضمن سياق زمني للاحداث، وهذا التشكيل النصي القصدي يحرك البنية السردية من خلال وعي السارد، ومن خلال استحضار علائق استيهامية مصطنعة بين راو مجهول، ومروي له مجهول ايضا، لكنها تكتسب توصيفا يحفز المتخيل السردي من جانب، ويشابك التاريخ السيرذاتي بوصفه تاريخا مع المتخيل ذاته، حتى تبدو الرواية وكأنها عبارة عن وجهة نظر الراوي، او سيرته المدونة للاحداث، او شهادته كمثقف عاش استلابات اللحظة العراقية منذ انقلابات الستينات وصولا الى الاستلابات الكبرى التي صنعتها الحروب والمنافي، والتي تتحول تحت سلطة النسق السيري الى مجس للكشف عن انساق مضمرة عاشها العراقي طوال عقود وهو يعيش فوبيا السلطة، ورهاب الذات وشقاوة الوعي الذي لايدون سوى احزانه النرجسية..
#القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى