«اغضبوا» لستيفان هيسل: مانيفستو الغضب الذي ألهم الشباب الأوروبي وناصر فلسطين

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد اللطيف الواري
المصدر / القدس العربي
كان قد ودّعنا قبل عامين في عزّ «الربيع العربي» ومظاهرات الشباب الأوروبي التي استوحى شعاراتها من كتيّبه المانيفستو «اغضبوا»؛ لكن الوضع اليوم تدهور، وأحلام الثورة أُجهضت، وأعمال العنف والعداء والوحشية زاد منسوبها أكثر من ذي قبل فيما يشبه عودةً لتاريخ البربرية وانتصاراً لليمين المتطرّف في كل أوروبا.
فقد ظلّ ستيفان هيسل، الشاعر والفيلسوف والمناضل الإنساني، رجلاً وفيّاً لمبادئه والتزامه الفكري والسياسي الجريء والرحب طوال القرن العشرين، الذي خبره عصراً أكثر دمويّةً وظلماً، وعاش ليحكي دروساً مفيدة للأجيال القادمة، كيلا تستكين إلى واقع يائس محبط لعزائم التغيير، حتى مات وهو شابٌّ في الخامسة والتسعين يتمتم بروح مُقاوِمة عجيبة لم تفتر. وقد حكى ذلك في مُذكّراته مع هذا القرن في كتاب بعنوان «الرقص مع القرن». وكانت كتبه: «وداعاً للشجاعة»، و«مواطن بلا حدود»، و«ارتدوا ملابسكم!»، بمثابة بيانات سياسية جريئة لا تهادن سلطة ما، فهي تحثّ في معظمها على الغضب وإعلان السخط والثورة ضد المجتمع، مثلما الحال مع كُتيّبه «اغضبوا» الذي بات يمثّل «مانيفستو الغضب» الذي ألهم الشباب الأوروبي في ساحات التغيير من اليونان إلى إسبانيا، مُحرّضاً إياهم على التعبير عن الغضب والاحتجاج والانتفاض ضد الظلم، وكأنّه يستوحي مقولة الفيلسوف جان بول سارتر: «حين يبدأ الإنسان بالاحتجاج يصبح أكثر جمالاً». مثلما غضب هيسل فيه من أجل فلسطين حرة.
«اغضبوا» أو مانيفستو السخط:
لقي كتيّبه الساخط «اغضبوا» نجاحاً مذهلاً، رغم أنّه صدر عن دار نشر صغيرة «أندجين»، وتجاهلتْهُ كبريات وسائل الإعلام الفرنسية في أثناء صدوره، بسبب من ارتباطها بأجندة اللوبي الصهيوني المتنفّذ. وقد كان الناس في فرنسا، كما في خارجها، يبتاعون كتيّب هيسل كما الخبز. وهكذا فقد بيعت منه ملايين النسخ وترجم إلى عشرات اللغات، بما فيها اللغة العربية. وبدت كّل ترجمة بلغة ما ـ في نظره ـ تشبه حيوان السيرك. يدعو هيسل فيه الشباب وكلّ المناضلين إلى العمل من أجل حياة أفضل، ومحاربة الظلم وتجاوز العقبات السياسية والاقتصادية التي تحول دون العيش في كنف حياة إنسانية كريمة. ولكم كان مبتهجاً عندما علم بأنّ دعوته إلى الغضب قد لقيت تجاوباً معها من لدن معارضي العولمة والشباب المتظاهر في كل مكان، وهو يقول عن نجاج كتابه إنّه «يُمثّل بالنسبة لي مفاجأة، لكن ذلك لا يجد تفسيره إلأ في هذه اللحظة التاريخية بالذات. المجتمعات باتت تضيع، وتتساءل عن كيفية الخروج والبحث عن معنى للمغامرة البشرية».
استهلّ هيسل كُتيّبه بقوله: «93 سنة، ما تبقّى لي من المرحلة الأخيرة إلا القليل. النهاية ليست بعيدة، لكنّ الفرصة سانحة لأذكر بأساس التزامي السياسي». ورغم تذكيره بكبر سنّه، إلّا أنه بدا كشابٍّ مُتحمس في العشرين من عمره وهو يذكر بـ«سنوات المقاومة» والبرنامج الذي أعدّه للمجلس الوطني للمقاومة قبل نحو ستّين عاماً ونيّف، وبه حمى القيم والمبادئ، ثُمّ يُذكّر بـ«كلّ الأشياء التي يجب استنكارها ورفضها»، التي استجدّت نتيجة تعقيدات العصر الذي نعيشه اليوم، وهو يقول: «إنّ اسباب التحاقي بالمقاومة الفرنسية كانت واضحة، بيد أنّ أسباب الاستنكار اليوم ليست بالسهولة التي نتصوّرها في عالم ٍ مُعقّد للغاية يطالبنا بالتفكير على الدوام. وسوف نجد أنّ من الأسباب التي تدعونا إلى الاستنكار، هناك الفرق الصارخ اليوم بين الفقراء والاغنياء، وضعية الكرة الارضية، معاملة المهاجرين بدون إقامة رسمية، معاملة المهاجرين والغجر، المنافسة المطلقة، ديكتاتورية السوق المالي، التراجع عن مكتسبات المقاومة، التقاعد والضمان الاجتماعي..». ورغم هذه الاختلالات العميقة التي مسّت جوهر العلاقات الدولية، فإنّه يُنبّه إلى رد الفعل الذي يجب أن تضطلع به شبكات وهيئات دولية من قبيل: أتاك، أمنيستي، الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، إلخ.
كانت هناك، بالفعل، مسوِّغاتٍ كثيرة برّرتْ دعوته الصريحة والتحريضية على الغضب والسخط، التي تتوافق مع التزامه الفكري والأخلاقي الذي يستلهمه من تجربته في المجلس الوطني للمقاومة الفرنسيّة أيام الاحتلال النازي، وكلُّها تصبُّ في اتّجاه رفض الاستبداد وفضح أخطبوط الإقطاع المالي والاقتصادي الذي بات يُهدّد الديمقراطية من الداخل، والتنبيه إلى مخاطر العولمة التي تُمجّد البراغماتية وتُخلي السبيل لليبرالية المتوحشة تفعل أنّى شاءت في سوق البشرية، وواجب التضامن مع المهاجرين والمهمّشين، مُحمِّلاً الدولة المسؤولية وتكاليف «مكتسبات المواطنة» التي أخذت في النكوص.
وفي نهاية كُتيّبه يدعو هيسل إلى الانتفاضة السلمية على وسائل الإعلام والاتصال التي لا تقترح أيّ أفق للشباب، إلا ما تُشجِّع عليه من الاستهلاك الجماهيري الرخيص الذي يحتقر الثقافة ويسخر من بسطاء الناس.
هكذا يتحوّل الكتاب في مضمونه إلى مشروع واقعٍ ثوريٍّ يمتدّ «لحركة غضب وسخط مواطن كوزموبولتيكي وشعبي عام في المدينة الحديثة».
الغضب من أجل فلسطين:
أمّا ما يحدث في فلسطين، فقد كان من الأسباب وأبلغها وَقْعاً في نفسه، إذ رأى بأمّ عينيه ما يعيشه أكثر من ثلاثة ملايين من أبنائها في مخيمات الأونروا، ويُلاقونه من ظلم وقهر، بعد أن طردتهم إسرائيل من أرضهم.
ووجد غزة التي زارها بجواز سفره الدبلوماسي أشبه بسجن غير مسقوف، قائلاً: «يظلّ غضبي الرئيسي اليوم يخصُّ فلسطين، قطاع غزة والضفة الغربية. هذا الصراع هو مصدر الغضب نفسه. لا بدّ من قراءة تقرير ريتشارد غولدستون في سبتمبر/أيلول 2009 حول غزة، وفيه يتّهم هذا القاضي الجنوب أفريقي اليهودي، والصهيوني كما يقول عن نفسه، الجيْشَ الإسرائيلي بارتكاب «أعمال تصل إلى جرائم حرب، وربّما قد تكون، في ظروف معينة، جرائم ضد الإنسانية» خلال عمليّته المسماة «الرصاص المصبوب» التي استمرّتْ ثلاثة أسابيع (…) لقد زُرْنا مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي أقامتها وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة منذ عام 1948، وفيها يوجد نحو ثلاثة ملايين فلسطيني طردتهم إسرائيل من أراضيهم وينتظرون عودتهم التي لا تزداد إلا تعقيداً.
أمّا بخصوص غزة فهي بمثابة سجن مفتوح لحوالي مليون ونصف المليون فلسطيني، ينتظمون بداخله لكي يبقوا على قيد الحياة. وعلاوةً على التدمير المادي الذي أتى حتى على مستشفى الهلال الأحمر من «الرصاص المصبوب»، فإنّ سلوك سكان غزة يوحي لك بحبّ الوطن بقدر حُبِّهم للبحر والشواطئ، إلا أنّهم لا يخفون قلقهم المستمر على أطفالهم الذين وسوسوا لذاكرتنا بعددهم وبشاشة مُحيّاهم. ولكم أُعْجبنا بطريقتهم البارعة في التعامل مع جميع حالات الخصاص التي تفرض عليهم، كما رأينا منهم من كان يضع الطوب بلا إسمنت لإعادة بناء آلاف المنازل التي دمّرتْها الدبابات».
وسبق لهيسل أن انتقد، في كتاب آخر بعنوان «وقت الغضب»، سياسات القمع الإسرائيلية، وهو ما جلب عليه غضب المنظمات الصهيونيَّة التي شنّت حملة إعلاميَّة شعواء ضده، واتّهمته بالخَرَف لكبر سنِّه، و»معاداة السامية». ولم يتردّد في دعوته إلى «وضع إسرائيل على قائمة الدول الاستبداديّة التي تنبغي مقاطعتها». وفي أحد حواراته الأخيرة، لمّا سُئِل هيسيل عن حلمه قبل الرحلة الكبرى، ردّ: «حلمي حقيقة، هو قيام دولة فلسطينية. هذا ما أريده وأرغب فيه قبل الانتقال إلى الضفة الأخرى من العالم».
طريق الأمل:
نتبيّن من أفكار الكُتيّب التي بسطها هيسل في مقاطع لا تزيد عن ثلاثين صفحة، أنّ الدافع الأوّل للمقاومة – في نظره- هو الغضب، بدعوته الأجيال الجديدة إلى تسلُّم المشعل وزمام المبادرة عبر إظهار السخط والاستنكار وعدم الرضا عمّا يحصل في عالمنا اليوم، بما قد يقود إلى «إحياء قيم المقاومة» التي بدأت تنتعش في المظاهرات التلقائية والعارمة، وإن بشكل متقطع ومحاصر بآلية قمع رهيبة. فلقد صار لبيان هيسل الساخط حضور وتأثير عالمي وهو يُوجّه عدداً من الحركات الاحتجاجية التي تردّدت أصداؤها في إيطاليا واليونان والبرتغال وبلجيكا وغيرها من الدول التي طحنتها الأزمة أو تتململ تحت ضرباتها.
لكن عندما دعا هيسيل الناس إلى السخط، فإنّ ما كان يدعو إليه هو حركة احتجاج سلمية هادفة وموجهة ومحددة، وألا تخرج إلى العنف الأقصى. فاللحظة تاريخية ووجودية ينبغي مواجهتها بنضال إنساني ملتزم وبتجربة روحية حتى لا يقع مآل الفوضى والتعذيب على أشخص آخرين.
هكذا يتمّ كسر الخوف وهزمه كلّياً والثورة على الظلم والاستغلال والقمع والقهر، بشكل يتجاوب مع الرغبة في صياغة شرعة إنسانية لوثيقة الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، ودعم ثقافة السلام وحقوق الإنسان في وجه جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية معترف بها من الجميع، وتحقيق توازن إنساني جديد بين شعوب العالم الذي ينتصر للمساواة والحرية والصدق والكرامة والعدالة الإنسانية، وإن كان ذلك العالم ما زلنا بعيدين عنه كثيراً. وتلافياً لكلّ تأويل مغرض للكتاب، والوقوف عند حدود الاستنكار لا غير، أصدر ستيفان هسيل كتاباً جديداً بعنوان: «التزموا»، وفيه يدعو الشباب إلى الالتزام بالعمل السياسي من أجل تغيير الواقع وتغيير الحياة السياسية، وذلك هو «طريق الأمل».