«الآخر» في «إله الصدفة» للدنماركية كريستين تورب

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مهداد عبد الاله

المصدر / القدس العربي

منذ القدم والعلاقة بين الأنا والغير تتقلب من صديق حميم إلى معاد أوعدو لدود، أو إلى كينونة مجهولة.
ومنذ القدم والإنسان يتساءل عن طبيعة الآخرين بالنسبة له، فنلاحظ الاهتمام بالآخر منذ القدم في الفلسفة اليونانية، إلا أنها سقطت في شراك القومية، حين اعتبرت «الغير» يوناني لا يتمتع بالصفات الإنسانية الكاملة التي يتمتع بها اليوناني, لتنتقل بعد مراحل عدة إلى الديكارتية، التي جعلت من وجود الآخر وجودا افتراضيا استدلاليا قابلا للشك، لتناقض بذلك الكثير من الفلسفات والديانات، سواء السماوية أو الوضعية. وقد حاولت الكاتبة الدنماركية كريستين تورب إعادة تعريف الغير أو الآخر في روايتها المتوسطة الحجم «إله الصدفة» المنشورة سنة 2011, وكريستين تورب من بين القلة القليلة- إن لم تكن الوحيدة- التي استطاعت أن تدفع عجلة الأدب الدنماركي نحو العالمية. وتتميز الكاتبة بغزارة إنتاجاتها وتنوعه الذي شمل تقريبا جل الفنون الأدبية من رواية, قصة, شعر,إضافة إلى المقالة.
ويبدأ عمق الرواية وما تثيره من فضول القارئ من العنوان الذي يحيلنا مباشرة إلى الأساطير الميثولوجية الخيالية، إلا أن الرواية انغمست بكاملها في الحقيقة والواقعية، كما أنها شحنت بالآراء الفلسفية الأخلاقية, أضف إلى ذلك القضايا السياسية والاقتصادية التي لا تكاد أي رواية معاصرة أن تخلو منها. والرواية بمجملها تنقسم إلى ثلاثة فصول, تدور أحداثها حول «ماريانا» الأوروبية الملقبة بـ»نانا» التي استطاعت أن تحصل على إجازة في أحد البلدان الافريقية, وبدلا من أن تجد متنفسا لتخفف من وطأة العمل وضغوطه, كما هو الهدف من الإجازات, ستتعرف على إحدى الفتيات اللاتي ألقى بهن الفقر على عتبات الفنادق، ليبحثن عن لقمة تحول دون الموت الذي خطف الملايين من بني جلدتهن, فتنقلب حياة الأوروبية رأسا على عقب، حين تكتشف أنها أضحت أسيرة «مارياما» الفتاة الافريقية التي عرفتها معرفة سطحية, فبعد الفصل الثاني يبدأ معنى العنوان الحرفي «إله الصدفة» في التبدد لتحل محله الرمزية والتأويل, كما أن القارئ يعيد إلى ذهنه المقولة التي افتتحت بها كريستين روايتها، وهي مقولة لريزارد كابوشينيسكي :»أنت والــ أنت الذي بجانبك واحد». فتضطر «نانا» إلى تحمل التكاليف والتعويضات لتتمكن من اصطحاب الفتاة معها ،وكذلك تحمل المشقة والعناء، خاصة مع الخالة «روزي» التي كانت تكن نوعا من البغض للجنس الغربي، كما أن عمل ابنة اختها «مارياما» هو مصدر رزقها, لكن النجاح في الذهاب إلى لندن والهجرة هناك, يزيد الأمور تعقيدا، ولن يزيد الحدث الذي كاد أن ينحل إلا عقدا جديدة، فاقترابهما من بعضهما لم يكن سوى مزيد من التباعد والاصطدامات والخلافات، التي تنتهي بالافتراق وإن كانت النهاية تأويلية نوعا ما إلا أن الافتراق أقرب ما يكون إليها.
والرواية تطرح مفارقات مثيرة للدهشة والإعجاب بمدى براعة الكاتبة، سواء في التصوير والتحليل، أو في إبراز الفروق الثقافية بين مجتمعين متباينين بطريقة ضمنية, سلسة, مميزة, متخطية الطرق التقليدية: فالعائلة الافريقية الملطخة بالفقر القاذع والأمراض والبؤس والجهل والسحر …تحيا بروحانية عالية تحاول جاهدة أن تتخطى قيود المادة, تبحث عن الخلاص باستمرار, إذن فهي تتخبط بين الخيبة والأمل، في حين تلازم الشخصية الأوروبية الباذخة نوعا من القلق المزمن والخوف المستمر، بل والوجودية القاتمة, تتعاطى بشكل دوري للعقاقير, للمسكنات… تأكل أصناف الأطعمة بدون شهية, موت المشاعر بحيث تؤسس علاقات كثيرة إلا أنها عابرة, وهيمنة العقل المادي العملي, بحيث يتحول الإنسان إلى آلة في شركة تهيمن عليه بدل أن يكون هو المسيطر.
ورغم أن جدلية الذات والغير هو موضوعها الأساسي، إلا أنها لا تخلو من مواضيع أشد حساسية، فصفحات كثيرة لا تخلو من الرؤية النقدية للمجتمع الطبقي اللاعادل, إذن ربما هي الرأسمالية التي شطرت العالم إلى شطرين: المهيمن صاحب السلطة بحضوره القوي، والشطر المنصاع بشخصيته المزدوجة وثقافته المهزومة, إذن ماذا سينم عن شريحتين متضادتين؟ بلا أدنى شك علاقة مشوشة، وكما جاء في أحد السطور التي تصف حالة «ماريانا» بأنها: «لم تحسم بداخلها إن كانت «مارياما» بركة أم لعنة, ربما لم يكن الفرق كبيرا…» لا ننسى كذلك إعادة عرض مفهوم العبودية في حلتها الجديدة، كما جاء في أحد سطور الرواية، «يستغرب المرء أننا نحن عشاق الحرية نربط أنفسنا عبيدا للعمل ونسجن أنفسنا داخل أقفاص الزجاج».
الرواية بثيماتها الفنية تستحيل إلى تراجيديا البحث عن الذات الموجودة في الآخر, بحيث تكون مهددة باستمرار بالضياع والتيه, فهي تطرح أحيانا أسئلة لكن مجردة من أي جواب … وفي الأخير يمكن القول إن هذه الرواية – وبدون مبالغة – يمكن إدراجها ضمن لائحة أعمق الروايات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى