الأحلام المسروقة… في دفاتر أطفال سوريا

الجسرة الثقافية الالكترونية
نياز الخطيب
في حديقة صغيرة، تفترش مجموعة من الأطفال الأرض. يضعون أمامهم بعض الأوراق، وتقوم مشرفة بمنحهم أقلاماً وألواناً: «تعالوا نرسم». عشر دقائق تمرّ بسرعة، تقوم المشرفة بتفقُّد الرسوم: «إنَّها ذاتها، الحرب تأكل عقولهم».
نظرةٌ سريعة على رسوم مجموعة من الأطفال، بعضهم مهجَّر من مناطق ساخنة، تكشف أنَّ معظمها يدور في فلك الحرب، سكاكين ومدافع، طائرة تقصف هنا، وامرأة تبكي شهيداً هناك..
يرتبك معظم الأطفال لدى سؤالهم عن معنى رسومهم. يقول أحدهم: «رح ننتصر، ونرجع عالبيت»، في حين تصمت مايا، ابنة الستة أعوام، وتطرق رأسها المزيَّن بجديلة طويلة لبرهة، قبل أن تقول، وهي تمسك طرف مريولها بحياء: «الآنْسِة قالت ارسموا شو ما بدْكنْ، ما بعرف ليش خطرتلي الطيّارة، بابا كان يسوق متلها». تشير صديقتها أميرة إلى دفترها الصغير أمامها على العشب الأخضر: «هَيْ صورة جندي عم يقاتل داعش مع الطيارة، وهَيْ الشمس مشرقة»، يقاطعها إبن العشر سنوات سعيد في الركن الآخر من الحديقة، «وأنا كمان رسمت صورة جندي بيشبهني وشهيد بيشبه بابا، بس نسيت الشمس».
هكذا دخلت الحرب المندلعة في سوريا منذ نحو خمسة أعوام، جميع تفاصيل الحياة، اخترقت ببارودها حتى الأحلام، فصارت مخيِّلة الأطفال تدور في فلكها، وتجري في تفاصيلها الدماء.
هبة الرومي الناشطة في مجال رعاية الأطفال، والتي تعمل ضمن فريق تطوّعي للدعم النفسي للأطفال والنهوض بهم من هذا الوقع، تشير، خلال حديثها إلى «السفير»، إلى أنَّ «وضع الأطفال صعب للغاية، خصوصاً هؤلاء الأطفال القادمين من مناطق الصراع»، وتضيف: «حتى الأطفال الذين يعيشون في مناطق آمنة، اخترقت عقولهم تفاصيل الحرب».
تروي الناشطة خلال حديثها قصصاً كثيرة عن أطفال جاؤوا من مناطق الصراع، ولجأت عائلاتهم إلى مدينة اللاذقية الآمنة التي تمثِّل مركز استقطاب العائلات المهجّرة في سوريا، تحكي قصة عن طفل قضى والداه إثر حريق فأصبحت النار لعبته، واعتاد إشعال الحرائق، وحرق نفسه مستمتعاً، كذلك تروي حكاية طفل آخر تدور معظم تخيلاته ورسومه حول الذبح والقتل، ففي إحدى المرَّات تخيَّل نفسه وهو يذبح على يد شقيقته، وروى لنا تخيّلاته ضاحكاً.
تقضي هبة وفريقها التطوعي ساعات طويلة في العمل مع الأطفال. تشرح، خلال حديثها، آلية عملها: «نحاول تطبيق أنشطة خاصة بالدعم النفسي، بهدف إيصال أفكار وزرعها في الأطفال عن طريق اللعب لتخليصهم من آثار الحرب والدماء خصوصاً، كما تشير إلى أنَّ حالات معقدة عدَّة أبدت استجابت للنشاطات التي يقوم بها الفريق، وتحسنت بشكل كبير.
آثار الحرب لا تقتصر على الأطفال المهجرين، إذ تضجّ المدارس في سوريا بالطلَّاب الذين تحوَّلوا بفعل الحرب وارتفاع منسوب العنف إلى أطفال عنيفين، يظهر هذا العنف عن طريق سلوكهم أو أحلامهم وتخيّلاتهم. ولعلَّ الرسم هو الطريقة الأمثل في معرفة تخيّلات الطفل، وأحلامه. «قبل الحرب، كانت تدور معظم رسوم الأطفال حول أبطال برامج الأطفال والشخصيات الكرتونية والطبيعة، أمَّا الآن فتشكِّل الأسلحة والدماء تفصيلاً هاماً في رسومهم»، تقول مدرسة مادة الرسم في إحدى مدارس اللاذقية، قبل أن تضيف: «لم نعد نطلب من الأطفال أن يرسموا رسماً حراً، أصبحنا نوجههم لرسم أمور معينة لنخرجهم من وضعهم الحالي».
الرسَّام جوني سمعان، والذي يقيم دورات رسم للأطفال بشكل دوري في معهده في اللاذقية، يؤكِّد خلال حديثه إلى «السفير»، أنَّ «الطفل يعبِّر دائماً عن دواخله بصدق وعفوية، ففي حالات القسوة مثل الحرب من المفروض أن يشكِّل الفنّ طريقة للعلاج من الحالات القاسية والمحاولة لإعادة التوازن في حياته». ويوضح أنَّه لا بدّ من «توجيه الأطفال نحو أشياء أجمل في الحياة، ونحو تنمية أحلامهم، لذلك أقوم، كأستاذ، بتوجيه الأطفال نحو الجمال».
يروي سمعان أنَّ إعادة لفت انتباه الأطفال نحو أمور أجمل كالطبيعة والألعاب والمستقبل، يحتاج إلى مجهود كبير، إلَّا أنَّه يؤتي أكله. ويقول، في هذا السياق: «الأهم هو توعية الأطفال حول جمال اللون، جعلهم يلعبون به، يحبونه، عندها يمكن أن يخرجوا من أزماتهم».
وتنشط في سوريا مجموعة كبيرة من المنظَّمات والفرق التطوّعية والجمعيَّات التي تُعنى بالأطفال، إلَّا أنَّها، وفق تقدير مصدر إغاثي، لا تلبِّي حاجة المجتمع المتزايدة للدعم النفسي، خصوصاً لدى الأطفال، الأمر الذي يعني أنَّ نسبة كبيرة من الأطفال ما زالوا يعيشون ضمن دوامة العنف، حتى وهم يعيشون في مكان بعيد عنه، الأمر الذي ربما تكشفه رسمة عابرة لطفل على دفتره الصغير هنا، أو حكاية دمويَّة يقصُّها على أصدقائه هناك، ما يعني أنَّ الحرب انتصرت على الأحلام، وربما احتلّت مكانتها في أذهان جيل من المفترض أن يُجهّز لبناء ما دمّرته الحرب.
المصدر: السفير