الأحلام نصّاً مفتوحاً على الواقع… والأدب

أحمد المديني
يبدو عبده وازن حذراً ومتردداً من غير وجل في كتابه الجديد «غيمة أربطها بخيط» (هاشيت أنطوان). هو نفسه من جديد، عبده وازن الذي اتخذ، منذ شرع في نهاية سبعينات، من القلم، الأدب، لسانَه الأول، أكاد أقول الأخير. وبما أن الأدب بدأ – ويستمر- عنده وسواساً، أي ضرورةً تعبيريةَ مصحوبةً بهاجس تجديد من داخله، بأدواته، ولصيرورته، لقول إحساس ورصد معنى يصهر الذات والوجود معاً، فالكتابة، والحالة هذه، لا ولن تكون معطى بدَهياً، ينتظم مسبقاً في شكل مسلم به، بسُنَن مقنّنة، ولتكن ضرورية، بل تحتاج منه إلى محك مساءلة دائمة تُختبر فيها لغةً، وقالباً، وبلاغةً، وأيضاً، بما ينظم قولها ويؤهلها أجناسياً للإنضمام للأدب.
من المقدمة، يرفع الكاتب شكوكه ويعلن شبه اعترافه في فقرة تنبيه عنوانها ببساطة (إشارة). من معناها لا تلزم أحداً، لكنها تنزِّه مؤلفاً لا يحب الخداع، يضع أمام قارئه ومتلقيه الجديِّ صكَّ براءة. ولِمَ لا دليلَ سير كذلك، ما دامت القراءة طريق محفوفة بالعثرات والمنعرجات، بخاصة عند من ينزاح عن طريق الكتابة (المستقيم).
يمكن رسم الدليل في التنبيهات. الاحترازات التالية: 1ـ لا نهاية لنصوص الكتاب، نظراً الى إمكان استمرارها لاحقاً.2ـ هذا كتاب» مفتوح» وهو شأن اصطلاحي.3ـ كتاب أحلام، في المنام واليقظة.4 ـ أحلام مروية بصيغة السرد( نوع). 5ـ كتابة الحلم تعيد صنع الحلم. 6ـ وأخيراً، الكتاب بوصفه مقاطع سيرة ذاتية، لاـ واعية.
يتكوّن هذا الكتاب هيكلة من إحصائنا 350 قطعة، متفاوتة كمّ النَّسجِ، قِصراً وتوسّطاً وطولاً. هو قِسمُه الأول، فيما القسم الثاني يحمل وحده عنواناً، أو عتبةً (مكوّنٌ من فِقْراتٍ كبيرةٍ، يمكن اعتباره بمثابة تذييل وملحق للكتاب)، يشرح فيه معنى الحلم وكيفية عيشه فيه، وبعض الأفكار والمفاهيم التي عالجت هذه التيمة في التحليل النفسي ولدى علمائه كفرويد ويونغ.
يصنع تقطيع النصوص،وفق تفاوتها الكمي، هيكلةً ثانية للكتاب تتنوع بين المقطع، والشذرة، والمقال كاملاً. وفي كل وصف/ وضع، يأتي المعنى (غرض المكتوب) بما يلائم القالبَ، ينسج ثوباً كبيراً، ممتداً، هو الغيمة، يربطها الكاتب – وهو ربط جدي لا اعتباطي، بخيط يحوك أطرافَها حياكةً متينة، ومطرّزةً أيضاً، فلا تظهر سديماً في سماء. طبعاً، ينبغي أن نقتنع بما أن ما نقرأ كلامٌ متماسكٌ، لا تجريدٌ يتبدّد في اليد وعلى اللسان، ينقشع كوهم، كحلم بمجرد الانتهاء من قراءته، ربما خلالها، أو لمّا نستيقظ من حلم القراءة. وإلا لا فائدة للكتابة أصلاً إن هي لم تجد سبيلها إلى متلق، وبقيت نفثات خاطر صاحبها؛ رهاناً ولا أقول مأزقاً يواجهه وازن بوضوح ويقدم عنه جواباً ـ ما همّ هل يقنع ـ يُوسِّع أكثرَ رقعةَ استراتيجية كتابة هذا العمل، وما يستدعيه، يولِّدُه، شكلاً وفحوى، من أسئلة مترابطة، متعالقة، على طريقة الأواني المستطرقة؛ وهو يقول إنه يكتب مقاطع سيرة ذاتية لا واعية.
إنه سؤال قابل لأن يَطرح مقاربةً للتحليل خاصة به، ومنها للتعاطي مع التأليف بكيفية ما، لا سيما مع نصوص الشكل بتنويعات ليست فيها حذلقة قط، وتعي برنامَجها مسبقاً. من هنا أهميةُ الدليل للقراءة، وللتحليل. ليس بإمكاننا الإحاطة به كاملاً في هذه المطالعة علماً أنها مغرية حقاً، وكم يصعب الفصل بين عناصره لترابطه متصلاً ومستمداً من بنية لا تسمح إلا في آخر المطاف بل توجب تأليفَ النسق الباني له، ذات مطلب النظرية الأدبية مع عمل جدي.
يُعدّ القول بـ «لاـ نهائية النصوص» إيعازاً باستمرارية كتابة، أي رفض إغلاقها، ما يسمح في آن بانغلاقها من دون سطوة النظام (الجنس الأدبي)، فتخطو حذِرةً فوق شوكه وحصاه. لذلك ترد مباشرة عبارة «الكتاب المفتوح» فتؤكد الحذر/ الاحتياط، إذ تحجز كلمة مفتوح بين مزدوجين، إما تراوغ معناها الاصطلاحي الذي يفرض تبعاته، أو تتبناه بقدر معين، أو لا يلحق بمعناها منه أكثر مما هو حرْفي منه، تلقائيٌّ، خُلوص النية والكتابة على السَّجيّة… نستبعد المنزع الأخير، مبذول في الانطباعات وفيض الخاطر، كيفما اتفق. فإن جئت إلى المقطع/المقاطع منزعاً ثانياً وجدتَه وافراً في تراثنا لدى القــدامى تعددت أغراضُه وأسلوبُه. فنميل إلى الأخذ بالمعنى الاصطلاحي للكتاب المفتوح، لثقتنا أن الكاتب علـــى دراية بقوله، وخصوصاً لانسجام تلفظاته، وخطة رسمه، ومراميه، مع مقتضى الاصطلاح كتصور عام.
هنا يمكن القول إن السيميائي والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو(1936ـ 2016) لم يأتِ بعنوان مؤلفه «الكتاب المفتوح» L’œuvre ouverte (الترجمة الفرنسية، 1965) من بنات أفكار نظرية، وإنما استنبته من قراءة شكلانية تفكيكية للإبداعية الغربية. قراءة تجاوزت النمط، وانزاحت عن نسق نصوص مقيّدة ومحكومة بقواعد جنسها الأدبي، في مواجهة العلوم وأفق الصدفة بانفتاح على اللاـ نهائي، تحاور ما حولها وهي تنتج «قوانين» وحياة خاصة بها. بل انها تمنح إمكانات في التلقي من لدن القارئ، ومن ناحية التعريف الصرف يقترح العمل الأدبي بوصفه: «رسالة ملتبسة جوهرياً، ومتعددة الدلالات تتعايش في دال واحد». وهذا الالتباس، لتكن تيمة وعالم (الحلم) عند عبده وازن، قابل لأن يصبح مطلباً ضمنياً للعمل (L’oeuvre) غير مكتمل. تكفينا هنا هذه الإضاءة المختزلة من أجل فهم كيف أن مفهوم الأدب اتسع وبدا عند إيكو قد خرج من الثنائيات والمسلمات، بسبب انفجار العصر والأزمات الأنطولوجية ونزعة اللا يقين.
لذا نسأل، هل يمكن اذن التشكيك في أدبية المقطع، علماً ان ما يتسمّى شِعرية الشذرة أضحت كلاسيكية، وإذن جزءاً كاملاً من تاريخ الأدب؟! وإلا، فماذا التباس كافكا وانزياحه عن منطق الرواية والمعيش؛ وماذا عن نيتشه، أو عبقرية سيوران الذي لا يستطيع أن يقول إلا بالمختزل ـ الناقص لديه يعلو الكامل، إذ المعاني شتى مضمرة والفراغ المطلق يحوم في فضائها. رولان بارت يلتحق أيضاً بالقافلة بعد وعثاء سفره السيميائي بمقاطعه عن «الخطاب المحب» (1977).
هكذا اذاً الأدب نتاج صيرورة، فيما الكاتب العربي مضطر أن يبرر، يسِّوغ، كأنه يؤتي مع كل إبداع منكراً. لذا كتاب «غيمة أربطها بخيط» نص طليعي بامتياز،، ولأحلامه حديث آخر.
(الحياة)