الأدباء في الأسر..

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

*بشارعباس

تأتي وفاة سميح القاسم ذات مغزى مفارق في معناها وتوقيتها للأسباب التالية؛ إذ عكس الشاعر في أدبه وسلوكه وحدةً وانسجاماً لديه بين التصوّر الوطني من جهة، وبين الفكر الذي حمله والشعر الذي أنتجه من جهة أُخرى، فكان صادقاَ، وكذلك بقي إلى يوم وفاته في 19 الجاري أوّل من أمس. أهميّة هذا الرحيل الآن أنّه من الممكن أن يُعيد طرح اسم الشاعر كأديب وطني في خضمّ من أحداث تحاول، وكثيراً ما تنجح في استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير: الطائفيّة بالوطنيّة، فينكمش الانتماء للجماعة الوطنية يوماً بعد يوم لمصلحة تمدد انتماءات بديلة لجماعات من نوع آخر، كجماعة الطائفة أو العرق أو العشيرة.

أمّا السبب الثاني، فهو: موقع الشاعر في قائمة أدباء القضيّة الفلسطينية، وفرادة هذه الظاهرة بمعانيها الأدبيّة والمجتمعية والسياسيّة؛ فالقضيّة لها وجود آخر موازٍ للواقع في عالم الأدب، يجعل ذلك النتاج الأدبي كشفاً جديداً في مجال تاريخ الأدبين العربي والعالمي، بوصفه مدرسة أدبيّة ترتكز مضامينها على تجربة النكبة وما تبعها عام 1948 الخروج الفلسطيني كما تصفه القواميس السياسية الغربية وموسوعة ويكيبيديا – الاغتيال الذي تعرّض له بعض هؤلاء الأدباء كان مقياساً حقيقياً لمكانة هذا الأدب وقوّة تأثيره وخطورته، فمنح هذا الاعتراف الدموي بأدب المقاومة ما لا يمكن للجوائز والمهرجانات على اختلافها أن تمنحه، واليوم مع رحيل الشاعر وعجز ذلك الأدب عن تزويد قضيّته بأسماء لها هذه القيمة، ليس في الشعر فقط بل في الرواية والأدب عموماً كما حدث من فراغ بعد رحيل غسان كنفاني؛ إذْ خسرت الرواية في الأدب الفلسطيني رائدها ونجمها فلم تتمكّن بعده من استعاضة اسم بمستواه، الأمر نفسه وقع في ما بعد كما يقع اليوم مع شعراء تركوا فراغاً ليس يندمل من بعدهم.

إنّ تفرّد هذا الأدب باعتنائه بظاهرة وطنيّة سياسية أدخل الشعرية العربيّة للمرّة الأولى في المضامين السياسيّة الوطنية على مستوى جماعي بما يُشكّل مذهباً أدبيّاً، وما خلا بعض الإضافات التحديثية في الأدب المهجري والناجمة عن تجربة الاغتراب، ثم تجديد السيّاب على مستوى الأسطورة وجمالية القبح ذات التأثيرات الغربية، بل حتّى مع تجديد أبي النواس الذي كان له أصول واضحة في الأدب الجاهلي، فإنّ التجديد الذي قام به أدب القضيّة الفلسطينيّة يحظى بأهمية مفارقة، وهو أدب من خلال وفرة نتاجه وعديد أسمائه ساهم بإيجاد قضيّتين فلسطينيتين تختلفان عن بعضهما البعض: فلسطين ما قبل أوسلو أي فلسطين النكبة والنضال والعودة وحصار بيروت، وفلسطين ما بعدها أي السلطة الوطنية والمعابر الآمنة.

إنّ خطورة هذا التحوّل في الواقع السياسي، والذي هو العنصر الفصل في تحديد هويّة هذا الأدب وملامحه، دفع الأخير إلى الانقطاع تماماً عن أصله ومراوحته بين أنموذجين؛ إمّا المواظبة على الاستقاء من الوضع الفلسطيني الذي بات الآن وضعاً «أدبيّاً» قديماً موجوداً فحسب على الورق، وإمّا إخضاع قصيدة أدب المقاومة الفلسطينيّة لعمليّة تستأصل مفرداتها وأدواتها وموضوعاتها التي إنّما تُشكّل هويتها، فتضع مكانها أدباً جديداً. هذه الإشكاليّة جعلت أحد روّاد هذا النموذج كمحمود درويش يهجر أدوات الأمس القريب ومضامينه، فيُسارع إلى الأجواء الإنسانية، الرومانسية التي تتعاطى الفلسفة أحياناً، ولكن مع الحفاظ على قرّاء الأمس بين ظهراني قرّاء اليوم الجدد، فظهر شعر جديد لمحمود درويش آخر، لا يجمعه بالشاعر القديم سوى الامتداد البيولوجي والاسم.

الشاعر سميح القاسم لم يُحسن القيام بتحوّل كهذا، ولم يتقبّل الوضع الجديد مضموناً لأدبه، ما يعني أنّه يتّفق في ثباته الشعري مع موقفه الوطني، وإن كان موقفاً كالسابق يجعله من الخاسرين أدبيّاً إذْ يعني وسماً لأدبه بـ«المرحليّة»، غير أنّ ذلك لم يزحزحه عن مسلكه الأدبي الذي رأى فيه أن يخسر أدبيّاً ويربح وطنياً.

الأنموذجان يُشيران إلى أنّ الأدب الذي ارتبط باسم المقاومة الفلسطينية، لم يعد على ما يُرام الآن، فنموذج درويش صاحب التحوّلات الكبرى، ونموذج سميح القاسم المُناقض له، يعنيان أن ذلك الأدب إمّا تحوّل فلم يعد كما كان، وإمّا توقّف في زمن سابق لا يُواكب المستجدّات، هذا قد يقود إلى إحياء مسألة لمّا تزل ماثلة وهي: كم كان من الخطورة أن تسود تلك المقولة الشهيرة في خمسينيات وستينيات القرن الفائت في أن الأدب انعكاس للواقع فحسب، لا يتدخّل فيه ولا يؤثّر عليه، وهي مقولة يقود الإيمان فيها إلى الاعتقاد أن الأدب لا كلمة له على الوضع سوى نقله وشرحه، فهل كان أدب المقاومة الفلسطينيّة كذلك؟

يُمكن أن نصف ذلك الأدب كمواجهة ثقافية حقيقية مُناهضة للبروباغاندا العالمية المضادة للحق الفلسطيني، الأدب العربي سيخوض حرباً لم يألفها من قبل، التصوّر التقليدي كان أن الشاعر والأديب عموماً ينهض واحدهما لشاعر أو أديب آخر، وليس لآلة جديدة عجيبة اسمها الإعلام. رحّالة الأدب يتعرضون للترانسفير الجماعي الآن ويضيع ملكهم معاً، وليس فرادى كسلفهم امرئ القيس الذي ضاع ملكه بمفرده، وأسراهم ليسوا أسيراً واحداً يُناجي حمامة حطّت على نافذة السجن، لقد ضاع ملكهم جميعهم معاً، وتعرّضوا للأسر معاً، في تجربة جماعية مفارقة نجحت في أن تمنح قضيّتهم الشرعيّة الأدبيّة الثقافيّة في مواجهة الشرعية التي تبتكرها الدعاية، فالاعتراف الذي تمنحه قصيدة جميلة أو رواية جيدة بقضيّة، لا يُضاهيه الحق المستند الى فنون الدعاية نظراً للفروق الجمالية والفنية والقيمية بين نوعي الاعتراف، وهذا يقود إلى نقطة البدء في مخالفة الرأي المتعلّق بوصف الأدب كانعكاس للواقع، لقد كان أدب المقاومة الفلسطينية فاعلاً في الواقع، لا يكتفي بالصدور عنه، بل كثيراً ما يقوده، فتكوّن كلماته مادّة لاصقة تجمع الجمهور الذي يقصده ذلك الأدب في شتّى أنحاء الشتات، فيقوم بوظيفة الكتب المقدّسة التي تربط معتنقيها بعضهم ببعض.

كل رحيل جديد لعلم من أعلام ذلك الأدب دون تعويض عنه من قبل المجتمع الأدبي الفلسطيني، يعني مزيداً من الخسارة للقضيّة التي أنشأتهم ونشأوا عليها، وعريا تامّا في مواجهة تبدو أنّها محسومة لمصلحة الطرف المضاد الآخر من الصراع ، الذي وإن كان الأقوى في الدعاية، غير أنّه لم يستطع ابتكار أدب أصيل كما فعل الفلسطيني، ببساطة لأنه سيكون أدب احتلال، والاحتلال لا أدب له، كما أن العمل الفنّي من شروط تعريفه أن يكون ذا مضمون معرفي إنساني، والاحتلال ليس من ذلك في شيء فلا يعود أمامه غير الدعاية، ولذلك يعني جمود الأدب الفلسطيني اليوم انتحاراً لقضيته، لأنّه مع انقطاع المصدر الأدبي للحق الفلسطيني،، لن يعود من الممكن ضمان ألا ينقطع وجود هذا الحق نفسه، فالقضيّة الفلسطينية لم تنشأ بفعل أحزاب، أو تيّارات سياسية فكرية، أو حتّى من أيديولوجيا ما؛ لقد نشأت على أوراق الأدباء الفلسطينيين، ومن حبر أقلامهم.

السبب الثالث الذي يمنح رحيل القاسم معنى مميزاً لا يتعلّق به كحالة أدبية فردية، بل بسلوك درجنا عليه في السنوات الأخيرة فبات عرفاً أو يكاد، ألا وهو الاحتفاء بالأدباء والشعراء سواء كانوا عرباً عموماً، أو فلسطينيين على وجه الخصوص، عندما يُغيّب الموت أحدهم، بينما يجب الاحتفاء بالشعراء وغيرهم من أبناء الكلمة، في حياتهم، كما في مماتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى