الأفلام العربية في طور تجديدي.. تأسيس أم نهضة؟

الجسرة الثقافية الالكترونية

*نديم جرجورة

المصدر: السفير

 

يُشكّل «باب الوداع» للمخرج المصري الشاب كريم حنفي مفاجأة. فالتجربة المعتمدة في سرد حكاية الصدام العميق والقاسي بين ابن وأمّه، في ظلّ مناخ غارق بكآبة وحزن وتمزّقات، ترسم ملامح توجّه سينمائي تجديديّ، منبثق من محاولات شبابية سابقة، ومنقلب عليها في آن واحد. والتجديد، المنطلق قبل أعوام قليلة بفضل اجتهادات سينمائية مصرية متنوّعة (أحمد عبد الله، إبراهيم البطوط، شريف البنداري وغيرهم)، يعثر على امتداد له في أفلام هالة لطفي ونادين خان وآيتن أمين وسلمى الطرزي وغيرهنّ، وصولاً إلى كريم حنفي، الملتزم خطّاً بصرياً مرتكزاً على الصمت لغة، وعلى تكثيف الرموز كمناخ درامي لسرد مُشبع بانفعالاته الدامية. هذا كلّه من دون تناسي اختبار «فن الفيديو» (حسن خان مثلاً) والوثائقيات الذاهبة إلى قعر المدينة والبيئة، كما إلى أعماق الذات والروح، بحثاً في أسئلة معلّقة عن اليوميّ والذاتي.

تمرّد

تجربة كريم حنفي جزءٌ من لغة سينمائية عربية تجديدية على مستويي الصورة والمعالجة تحديداً. لغة تتمرّد على كلاسيكية قديمة، وعلى واقعية صادمة، وعلى فعل جماعي مُستَنْزَف حالياً. لغة تلتفّ على الذات كنواة للسرد والبناء البصري، وتنطلق من الفرديّ باتّجاه مرايا هذه الذات والروح معاً. اللبناني باسم فيّاض مُسرف في تواصله البصريّ مع ذاته في «يوميات كلب طائر». فالذاتيّ هنا محور وامتداد وتكامل بين صورة وحكاية وانفعال وبوح. والمرايا موزّعة في الاتجاهات كلّها، على مدى السياق الحكائي برمّته. أما الكاميرا، فمتحرّكة بطلاقة تتيح لها تنقّلاً سلساً في الأمكنة والتفاصيل والمناخات. الذاتيّ نفسه منطَلَقٌ درامي للوثائقي الجديد «لي قبور في هذه الأرض» للّبنانية رين متري. لكن الذاتيّ هنا منفلش على ذاكرات جماعية مرتبطة بحرب أهلية، وبتبدّلات ديموغرافية، وبصراعات جغرافية وطائفية واقتصادية. الفيلمان اللبنانيان منتميان إلى نمط سينمائي عربيّ مشغول بهَمّ الفرد في ارتباطاته المتنوّعة: بذاته وروحه وعلاقته ببيئته وبالآخر أيضاً. شكلٌ سينمائي مفتوح على الاحتمالات كلّها، وآلية معالجة تبغي كشف بعض المبطّن بكل وسيلة جمالية ممكنة. شكلٌ كهذا معتَمَدٌ في فيلمين مغربيين هما «حمّى» لهشام عيّوش و«البحر من ورائكم» لهشام العسري: كاميرا تقتنص لقطات جمّة كي تنبني مشاهدها على إيقاع مرتبك وصادم، وكي تُفكّك وقائع اليومي المتشظّي في العلاقات والمناخ السياسي ـ الثقافي والحالات. التشابه العام بين أفلام عربية كهذه، مُنتجة خلال العام 2014، لن يكون كاملاً، لأن أساليب المعالجة مختلفة، وإن كان الهمّ الفرديّ عنواناً يلتقي فيه سينمائيون عرب يخوضون معركة جمالية لتحرير الصناعة الفيلمية من تقنياتها وطقوسها ومفرداتها القديمة. بهذا المعنى الفني ـ التقني ـ الجمالي، يُمكن التوقّف عند تجربة اللبناني غسان سلهب، الواصلة أخيراً إلى «الوادي». ففي فيلمه الروائي الطويل هذا، يزداد سلهب اندماجاً باللعبة السينمائية البحتة، في مقاربة أحوال أناس مقيمين في الحدّ الواهي بين الواقع والمتخيّل. أناس يجدون في عزلاتهم منفذاً للانقطاع عن عالم منهار، أو يقعون أسرى فقدان الذاكرة كي يبحثوا عن راهن مستعص، وغدٍ مغيّب.

هذه نماذج قليلة للغاية تقول شيئاً من تفرّد سينمائي عربيّ آنيّ، يصنع طقوسه الجديدة وفقاً لأولوية اللغة السينمائية (تصوير، توليف، إضاءة، نصّ، كتابة، معالجة، مواضيع، بناء شخصيات، إلخ.). غير أن تفرّداً كهذا لا يقف حائلاً دون استخدام سرد تقليديّ لحكاية عادية تنكشف، لاحقاً، كأداة تعرية لذاكرة منغلقة على نفسها إلى درجة التقديس، فإذا بمخرج شاب يقتحم هذا الإطار كي يقول وقائع قاسية. في «الوهرانيّ» للجزائري لياس سالم، تستعيد الثورة الجزائرية بعض فصولها، كي تتعرّى أمام كاميرا لا تأبه بالمقدّس ولا تكترث بالجامد، لرغبتها في تحطيم المقدّس والجامد معاً. ذلك أن مقولة «الثورة تأكل أبناءها» منطلقٌ لحبكة تروي حكاية صديقين يناضلان ضد المحتلّ الفرنسي، قبل أن يتحولا إلى رمزين متناقضين عن مرحلة ما بعد انتصار الثورة. يناضلان ضد محتلّ، لكنهما يعيشان صراعات داخلية تؤدّي إلى تصفيات وقتل ونزاعات. «الوهرانيّ» مرآة حياة يُراد لها أن تبقى في الظلّ. لكنها، بفضل لياس سالم، تنكشف أمام الملأ، وتتعرّض لمواجهة حادّة من قِبل مقاتلين سابقين لا يريدون المسّ بالمقدّس والجامد. هذان الأخيران لن يكونا حكراً على الثورة الجزائرية، لأنهما حاضران غالباً في أنماط الحياة اليومية. فعندما يختار هشام العسري دقائق العيش اليومي في قلب الخراب والعفن والفوضى والارتباك، ملتقطاً نبضها وتوهانها وخيبات ناسها، يُصبح «البحر من ورائكم» لحظة تأمّل في انهيار المقدّس الاجتماعي، والجامد السياسي ـ الثقافي ـ التربوي. يُصبح لحظة تأمّل في جمالية السينما وهي تقول هذا كلّه.

تحديات

هل تصنع أفلامٌ كهذه «نهضة» سينمائية عربية جديدة؟

ربما. لكن، ما هي الأسس المطلوبة لإطلاق نهضة سينمائية عربية: الاكتفاء بتجديد لغة الصورة في مقاربة أحوال الذات وتمزّقاتها، أو الإمعان في تحطيم كل قيد من دون استثناء؟ البحث عن قوانين عصرية تحمي السينما من سطوة الرقابات القاتلة، أو الإمعان في التورية والاحتيالات البصرية، المقبولة فنياً وجمالياً أصلاً؟ تصعب الإجابة. النماذج السابقة تُقدّم برهاناً إضافياً على أن السينما العربية قادرة على إيجاد معادلات إبداعية بين شكل يستجيب للشرط الإبداعي الخاصّ بصانعه، ومضمون لا يقف عند محرّم أو ممنوع، ولغة تقول ما تريد بالصورة والحوارات المكثّفة والتقنيات المختلفة. أحد المآزق التي يجب عدم تجاهلها، كامنٌ في مسار بعض السينمائيين التجديديين الذي يعكس قلقاً على مصير التجديد السينمائي العربي. مثلٌ على ذلك: إبراهيم البطوط. فبعد 4 أفلام مُنتجة بميزانيات قليلة («إيثاكي» الأول له بميزانية 40 ألف جنيه مصري فقط)، وبلغة سينمائية مستقلّة عن الأطر الجامدة للاستديوهات الإنتاجية الكبيرة، يسقط البطوط في التجاريّ الاستهلاكيّ العاجز عن تلبية شرط السوق أصلاً. في «القط» (2014)، الخامس بعد «إيثاكي» (2004) و»عين شمس» (2008) و»الحاوي» (2010) و»الشتا اللي فات» (2012)، ينحرف المسار الإبداعي التصاعديّ عن سكّته باتّجاه مغاير لا يحمل من اللغة السينمائية شيئاً كثيراً، باستثناء قصّته الأصلية: رجل ينتقم لمقتل ابنته، فيُطارد عصابة تخطف أولاداً مُشرّدين (وربما غير مُشرّدين أيضاً) من الطرقات لتبيع أعضاءهم.

المفارقة الأخرى كامنةٌ في انطلاق إماراتيّ شاب يُدعى وليد الشحي في طريق الفيلم الروائي الطويل. فبعد تجارب روائية قصيرة تعكس ثقافة سينمائية ومخيّلة حيوية، يتحوّل «دلافين» إلى منعطف تأسيسيّ لمخرج يُسرف في منح الصورة لغتها التعبيرية، ويغوص في مناخ إنساني موزّع على حكايات تتداخل مصائر شخصياتها لاحقاً في احتفال سينمائي مشوب ببعض هنات لا يُغيّب بهاء العمل الأول: مراهق لا يعثر على مكان له بين أم تريد زواجاً من رجل آخر بعد طلاقها من أبيه الذي يعمل سائق سيارة إسعاف. صديق المراهق المُصاب بعاهة في قدمه. الرجل الفاقد أمّه والذاهب بسيارة الإسعاف نفسها إلى قريته لدفنها. العلاقة الجميلة بين صديق المراهق ووالدته. قصص تعكس وجوهاً من العيش في المتاهات الإنسانية الملبّدة بقسوة أو حبّ، وبتمزّق أو تلاحم (أو ربما وهم تلاحم ما). سياق درامي مشبع بلقطات سينمائية مشغولة بحرفية لافتة للانتباه.

المحاولات الفردية لصناعة سينما عربية متجدّدة بقوالبها البصرية وأشكالها الفنية والتقنية ومضامينها الدرامية والجمالية مستمرّة في إنتاج أفلام ذات جودة عالية، وذات مصداقية راقية في مخاطبة العقل والروح والقلب معاً. لكنها لا تزال محاولات فردية، ولا تزال تواجه سلطات متنوّعة لن تحول دون نموّها وتطوّرها وبلورة آفاقها العديدة، ولو بعد حين ومثابرة جادّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى