الأوديسّة العراقية» بحث في الجذور والطرد السياسي

الجسرة الثقافية الالكترونية
زهرة مرعي
«الأوديسّة العراقية» فيلم وثائقي تتبع خلاله المخرج سمير جمال الدين أثر عائلته وتاريخها الممتد عبر قرن من الزمن، بدءاً من جذورها في مدينة البصرة. ساعات لا تحصى من الجهود أمضاها جمال الدين في البحث الأرشيفي، واقتفاء الأثر من بلد إلى آخر. فمنذ الستينيات كان للموقف السياسي مفاعيله في بدء انتشار العائلة في أصقاع العالم، وتلتها الحروب المتنوعة التي سرّعت في مغادرة من تبقى. الفيلم الذي عُرض في بيروت عراقي الهوية واللهجة، إنتاجه سويسري. أما أن تكون «الأوديسة العراقية» بهوية سورية، مصرية، مغربية، ليبية أو غيرها فأمرا متيسرا بقوة. فالوطن العربي يطرد ابنائه لأسباب شتى، منها تنكيل الأنظمة بمعارضيها، ومنها الاضطهاد الديني، التعطش للديمقراطية والكرامة الإنسانية، من دون إهمال دوافع الجوع والبحث عن عيش كريم، وحالياً الحروب التي تغطي نصف الدول العربية.
162 دقيقة زمن «الأوديسّة العراقية» وفيها سؤال الجذور يتنقل عبر البحار والقارات. وسيل من أسئلة أخرى، مثل كيف ولماذا حدث كل هذا الانتشار القسري لعائلة عراقية؟ أسئلة شكلت المحفز والمحرك للمخرج. يروي المخرج الحكاية بصوته، ويظهر في الوثائقي مع أعمامه وعماته. فهو غادر وطنه طفلاً، ومع ذلك انتصبت أمامه مسلمة بالغة الدلالة، ألا وهي استحالة الانفكاك عن الماضي. والخلاصة التي وصلها في نهاية فيلمه: «لن يمكنك تشكيل مستقبلك لو كنت لا تعرف ماضيك». في محطات عدة لجأ المخرج إلى أوتار العود، فشكل سنداً عاطفياً شفافاً جداً لموقف عاطفي بامتياز. إذ عمل سمير جمال الدين لخمس سنوات في لملمة ذاكرة العائلة المؤلفة من عشرات ابناء العم والعمّات المنتشرين بين أبو ظبي، سويسرا، ألمانيا، موسكو، فرنسا، بريطانيا، أستراليا، نيوزيلاندا، الولايات المتحدة وغيرها ربما، فيما القليل لا يزال في العراق. تاريخ العائلة يرقى إلى الجد «المناضل ضد الاستعمار البريطاني»، ثم الاب الذي كان مدرساً، ومن ثم محامياً، وتالياً قاضياً، قبل أن يترك العراق إلى لبنان هرباً من زمن حزب البعث.
من خلال صور الأسود والأبيض، وسيرة العائلة التي جمعها المخرج واستفاد منها جيداً، يظهر أنها متوسطة الحال وعلى قدر كبير من العلم والثقافة للبنين والبنات معاً. فبينهم أطباء، مهندسون، علماء وفنانون. بعودته إلى العراق سنة 2010 حاول المخرج أن يكون وجهاً لوجه مع الماضي والحاضر، وكانت المواجهة مؤثرة.
وظف المخرج صور العائلة، وكذلك اللقطات الأرشيفية حيث يجب، مضيفاً إليها تقنيات الغرافيكس، والأبعاد الثلاثية. الصور الأرشيفية أظهرت عراقاً لا يمت بصلة لعراق اليوم. بصوته قال المخرج عن بغداد التي لم يعرفها في ما مضى «كانت فيها حياة لطيفة ومرتبة».
مشوقة سيرة عائلة جمال الدين. هي حاضرة في الحياة العامة للعراق منذ الخمسينيات. انتمى أفرادها للحزب الشيوعي العراقي، أو عملوا تحت لوائه، ولهذا السبب كان «العم صباح» أول المهاجرين قسراً لأسباب سياسية مع بداية صعود نجم حزب البعث. ترك المخرج لنفسه ولأفراد من العائلة التعبير عن تنازل السوفييت عن الشيوعيين لصالح صدام حسين، حيث دعوهم للعودة إلى وطنهم للمساهمة في بنائه؟ وكان مصير الكثيرين منهم الموت. «العم صباح» وهو طبيب اختصر موقفه ومشاعره من الانتماء الحزبي بعد طول تجارب: في الحزب أنت خروف. وهذا ما تركه يهجر موسكو للبدء برحلة تشرد طويلة قبل الاستقرار في بريطانيا.
سيرة عائلة جمال الدين هي سيرة العراق في مساره الانحداري من القمة بعد الاستقلال، وبدء التنكيل السياسي على يد حزب البعث، إلى الحروب، التفجيرات، والموت ا لمترصد بالناس في كافة الزوايا. ولم يكن للمخرج الخوض في الزمن الداعشي. فربما أنجز فيلمه قبل تمدد سيطرة «دولة الخلافة» على جزء من العراق.
في عرضه الأول لفيلمه في سويسرا تمكن سمير جمال الدين من جمع عدد كبير من العائلة لمشاهدته. أكثر تلك العائلة، خاصة الجيل الأول ردوا على سؤال العودة إلى العراق مجدداً بجملة أسئلة؟ ليش أعود؟ «ماكو» ضرورة. هل انهار الحلم العراقي؟ ليس من انهيار أبدي، القيامة آتية. يخلص المخرج سمير جمال الدين للقول: ملحمتي لن تنتهي، أوبسيسوس عاد إلى دياره وإلى بنلوبه، وأنا وجدت «بنلوبه» خاصتي في سويسرا. هو فيلم مرهف ينشر الحزن في الروح، رغم عدم وجود الحزن في مفاصله. بالغ المخرج في إطالته، وهذا ليس لصالحه.
العراقيون نموذج وكل شعب عربي يكتب أوديسة خاصة به… وثائقي «الأوديسّة العراقية» بحث في الجذور والطرد السياسي
المصدر: القدس العربي