الإسباني غويا … صورة شخصية لرجل أصم

الجسرة الثقافية الالكترونية
فاروق يوسف
كلما زرت ناشيونال غاليري في لندن كنت أجدني منساقاً إليها. صورة الدوقة إيزابيل كما رسمها فرانثسكو غويا عام 1805. كان الرسام الاسباني يومها أصمّ. لم يكن جمال الدوقة الاستثنائي هو ما يستدعيني إلى الوقوف كل مرة أمام صورتها بل لطخة بيضاء ضربها الرسام على الجانب الأيمن بين الرقبة والصدر هي ما كانت تمارس سحرها عليّ بحيث أعود إليها كل مرة متسائلاً عن سرها، فهي ليست جزءاً من الشكل وكان في الإمكان تفاديها، لكنها كانت ضرورية لكي يكون غويا قد أتم صنيعه الجمالي مثلما رآه خيالياً.
لولا تلك اللطخة لكانت اللوحة صورة شخصية لسيدة معتدة بنفسها، ركع الرسام أمام جمالها معتذراً. كانت تلك اللطخة أشبه بالهذيان الشعري الذي يصاب به المرء حين يلعب الجمال بأعصابه من غير أن يستجيب لسانه لحماسة الجمل الجاهزة. ما فعله غويا يكاد أن يكون نوعاً من مديح للرسم تعجز الصورة وحدها أن تعبّر عنه. في كل الصور التي رسمها غويا للملك وحاشيته من أمراء ودوقات ونبلاء كان هناك شيء منه، يذكّر بشخصيته المارقة التي قادته في ما بعد أن يكون طريد محاكم التفتيش.
اليوم في المعرض الكبير الذي يقيمه الناشيونال غاليري لـ «غويا» يحضر رسام الصور الشخصية كاملاً. لقد تم تجميع رسوم غويا في مجال فن البورتريه من كل أنحاء العالم، ليهبنا فكرة متكاملة عن الصنيع الجمالي لواحد من أهم رسامي الصور الشخصية في تاريخ الرسم بعد رامبرنت، معلم عصر الباروك. غويا (1746 – 1828) كان الوريث للباروكي الآخر فيلاسكز، رغم أنه لم يكن محظوظاً مثل سلفه الاسباني بسبب ما تخلل عصره من اضطرابات سياسية، كان بعضها داخلياً وهو ما نتج عن ضعف القصر في مواجهة الكنيسة أو تواطئهما معاً والبعض الآخر كان خارجياً بسبب الحروب التي كانت تشنها فرنسا النابوليونية على اسبانيا. ولم تكن حياته الشخصية لتستقر على هناءة بعينها، حيث كان يتم استدعاؤه وهو رسام الملك إلى مصنع الأقمشة لكي يمارس دوره رساماً هناك. وهو ما لم يشعره بالاحباط، فكانت رسوم الاقمشة هي الآخرى نوعاً من معجزاته الصغيرة التي سيعثر عليها بعد قرن من وفاته لتحتل مكاناً مرموقاً في سيرته الفنية، مثلها مثل تلك الرسوم التي كان يخططها على عجل على الصفائح المعدنية لتطبع وتوزع نسخها على الناس العاديين. جماليات غويا في رسومه للأسرة المالكة وهي جماليات مترفة في ادائها لم تكن تكشف عما انتهى إليه الرسام في ما بعد من موقف معاد للقصر والكنيسة معاً.
كانت لوحتاه لدوقة البا مرتدية ملابسها وعارية في الموقع نفسه وبالوضعية نفسها قد أثارت عليه نقمة الاطراف كلها، غير أن شعوره بلذة الرسم كان حاضراً دائماً مع كل وجه جديد يرسمه، كما لو أنه اشتاق لرسمه. كما لو رغب من قبل في الإبحار في تفاصيله. وهي اللذة التي كانت تعبّر عن قوتها بطريقة منفعله في رسومه لوجهه في مختلف مراحل حياته، وهي رسوم يمكنها أن تكون سجلاً لحياة مر بها الرسام المتمرد من غير أن تحبطه تفاصيلها المريرة. غويا رسم نفسه شاباً أنيقاً في مرسمه الملكي ورسم نفسه شيخاً اعتزلته الحياة في بوردو الفرنسية حيث مات وحيداً. في الحالين كانت يده تحاكي خيال بطولتها. لقد احتفى رسام القصر بنفسه مثلما كان يحتفي بالدوقات الجميلات اللواتي تركن أثراً من جمالهن على تقنيته في الرسم، وهو ما صار عليه في ما بعد أن يمحوه.
الساحر الاسباني لا يزال في إمكانه أن يقرر قواعد مختلفة لرسم البورتريه.
من يتطلع إلى لوحات غويا في معرضه الحالي لن يكون معنياً بالشبه، بقدر ما تسحره قوة الوجود. هناك شيء لا يمكن تسميته هو ما يقع بين الصورة وخيالها يدفع المتلقي إلى الرضوخ إلى املاءات الرسام. ليكون كل شيء بمثابة وهم، خلقه الرسام ليتسلى، ليمارس لعبته في استبدال لغز بآخر، ليكون وحيداً في آخر الأمر وليقنعنا بأنه رسم الجميع من أجل أن يرسم نفسه.
دحر غويا تاريخ الرسم بصوره الشخصية، ملكاً منفياً، لا تزال رعيته تمارس سلطة استثنائية على التاريخ. الملوك في معرضه الحالي هم جزء من تلك الرعية.
المصدر: الحياة